الجمعة 18 أبريل 2014 / 10:06

مرة أخرى.. لا ديمقراطية دون تعددية حزبية


عادت الدعوة إلى ديمقراطية غير حزبية لكى تطل برأسها من جديد في الأسبوعين الأخيرين، وبدأت بنداء وجهه الإعلامي توفيق عكاشة على شاشة قناة "الفراعين" التي يملكها، إلى بعض الأحزاب والائتلافات التي تؤيد المرشح الرئاسي عبدالفتاح السيسي ومنها حزب "الحركة الوطنية المصرية" الذى أسسه المرشح الرئاسي السابق أحمد شفيق وحزب "المؤتمر" الذي أسسه المرشح الرئاسي السابق - كذلك- عمرو موسى وغيرهما للاندماج في حزب واحد.

وعندما لم يجد توفيق عكاشة استجابة لندائه دعا إلى حشد جماهيري في أحد ميادين العاصمة للضغط من أجل تحقيقه، لكن الكلمات التي ألقيت فيذلك الحشد والهتافات التي ترددت فيه، ما لبثت أن تحولت- بقدرة قادر- من الدعوة إلى توحيد الاحزاب التي تؤيد عبدالفتاح السيسي إلى الدعوة لحل كل الأحزاب ليتوحد المصريون في حزب واحد يقف صفاً واحداً خلف الذي يتوقع الجميع أن يكون المرشح الذى يفوز برئاسة الجمهورية.

وكان طبيعياً أن تتعرض هذه الدعوة- بالصورة التي بدت عليها خلال الحشد الجماهيري- إلى هجوم كاسح شنته جريدة الوفد - لسان حال حزب الوفد- على صاحبها الذي اضطر إلى ادخال تعديل جديد عليها بحيث تقتصر على المطالبة بإلغاء الأحزاب التي تأسست في أعقاب ثورة 25 يناير، وعددها يقترب من خمسين حزباً، على أن تبقى الأحزاب التي كانت قائمة قبل ذلك التاريخ، وعددها 24 حزباً تتصدرها أحزاب الوفد والتجمع والناصرى!

وهكذا بدأت الفكرة بالدعوة لتوحيد الأحزاب التي تؤيد السيسي في حزب واحد وانتهت بالمطالبة بإلغاء هذه الأحزاب ضمن ما سوف يلغى من الأحزاب التي تشكلت بعد ثورة 25 يناير وكشفت بذلك عن مدى ما تنطوي عليه من تشوش وتناقض وتقلب في الأفكار وهو أمر شائع عن صاحبها، كما هو شائع في الحياة السياسية المصرية بشكل عام خلال سنوات ما بعد الثورة.

والدعوة إلى ديمقراطية غير حزبية ليست من ابتكار توفيق عكاشة وليست وليدة سنوات ما بعد ثورة 25 يناير، لكنها تيار فكرى قديم عبر عن نفسه في أعقاب ثورة 1919 في ظل مناخ الإحباط الذى ناوش الجيل الذى شارك فيها بعد أن توقفت في منتصف الطريق ولم تحقق سوى "نصف استقلال" و"نصف ديمقراطية" ليسود الاعتقاد بأن السبب في ذلك كان انقسام المصريين بين "سعديين"- يؤيدون زعيم الثورة "سعد زغلول" - و"عدليين" يؤيدون "عدلي يكن" وهو الانقسام الذى انتهى بتشكيل حزب "الأحرار الدستوريين" المعارض للوفد لينشغل الطرفان في صراع حزبي أدى في رأي الذين تزعموا الهجوم على الحزبية إلى التمكين للاحتلال استفاد منه الاحتلال، مع أن الخلاف لم يكن بعيداً عن الأهداف الرئيسية للحركة الوطنية، إذ كان في جوهره خلافاً بين اليعاقبة المتشددين الذين يرفعون شعار "الاستقلال التام أو الموت الزؤام" ويحتشدون في حزب الوفد، والجيروند المعتدلين الذين يسعون لتحقيق المطالب الوطنية بشكل متدرج ويدعون للتساهل في هذه المطالب إلى أن يشتد عود الأمة، وقد احتشدوا في حزب "الأحرار الدستوريين".

ومن بين أتون هذا الصراع برز التيار الذى تبنى الدعوة إلى ديمقراطية بلا أحزاب، وتشكلت - في الثلاثينات- حركات شبابية مثل "مصر الفتاة" و"الإخوان المسلمين" تدعو إلى توحيد الأمة ف" حزب واحد وتوسعت هذه الحركات ف" الاربعينات بانضمام الحركات الاشتراكية إليها ومن هذا التيار بمختلف تنويعاته تشكلت "حركة الضباط الأحرار" التي قادت ثورة 23 يوليو 1952 وأخذت بفكرة التنظيم - أو الحزب السياسي- الواحد، من "هيئة التحرير" إلى "الاتحاد القومي" إلى "الاتحاد الاشتراكي" ليتحول هذا التنظيم - في عهدي السادات ومبارك إلى صيغة عرفت باسم "الحزب الواحد في قالب تعددي" وانتهت - بعد ثورة 25 يناير - بحل الحزب الوطني الديمقراطي ليحل محله ما يقرب من خمسين حزباً أخرى!

وخلال الأعوام الثلاثين التي حكم فيها مبارك لم تتوقف الحملة الدعائية ضد الأحزاب التي كانت قائمة آنذاك، حتى بين أصحاب الأقلام التي كانت تعارض حكمه، بدعوى أنها أحزاب كرتونية منقطعة الصلة بالمواطنين، وعاجزة عن التأثير فيهم، دون أن يتنبه هؤلاء إلى أنهم بدعايتهم المضادة ضد الأحزاب، يخدمون عملياً الاستبداد الذى كان قائماً، وأن إصلاح ما قد تقع فيه الأحزاب من أخطاء يتطلب دعوة المواطنين للاحتشاد داخلها والعمل على تصويب موافقتها وتجديد دماء قياداتها وفى اسوأ الأحوال الدعوة إلى تشكيل أحزاب أخرى تحل محلها، بدلاً من الهجوم العشوائي الذى بدا وكأنه دعوة لرفض الحزبية.

وكانت تلك هي الرسالة الخاطئة التي وصلت إلى الشبان الذين فجروا ثورة 25 يناير عبر سيل من المقالات والتصريحات والتحليلات، تشيد بما فعلوه، وتفسر نجاحهم في اسقاط النظام القديم بأنهم كانوا بلا قيادة ودون تنظيم ومن غير حزب فأصرت الكتلة الكبرى منهم، على أن تظل بعيدة عن الاحزاب التي كانت قائمة وعزفت عن الانضمام إلى الأحزاب الجديدة وتفشت بينهم نظرية فوضوية تقول بإنهم سيواصلون نضالهم عبر تنظيم مليونيات على نسق مليونية ميدان التحرير التي بدأت منها الثورة، ولم يقل لهم أحد ان الاستبداد قد تجذَّر بسبب عزوفهم قبل الثورة عن الاهتمام بالعمل العام، وأن الاحزاب التي يصفونها بالكرتونية قد ضعفت بسبب نفورهم من الانضمام إليها، وأن حشد المليونيات يمكن أن ينجح ويحقق هدفه، بسبب ظروف معينة كالتي أدت إلى نجاح حشد 25 يناير، لكنه لا يمكن أن يستمر أو يتواصل دون أن تكون هناك منظمات حزبية قوية موحدة الرؤية وموحدة الإرادة تدعو إليه وتتولى تنظيمه!

ما يفوت على الذين يروجون هذه الأيام للدعوة إلى الغاء التعددية الحزبية، والعودة إلى صيغة "الحزب الواحد في قالب تعددي" أو ما يقرب منها هو أن التعدد جزء من الطبيعة والمجتمع، وأن جميع المحاولات التي بذلت لفرض وحدة سياسية قسرية على المجتمع- بما في ذلك التجربة المصرية- وإن كانت قد حققت بعض النجاح في بدايتها إلا انها انتهت بكوارث سياسية واقتصادية، ثم أن ما يقولونه يخالف نصاً صريحاً في الدساتير المصرية، منذ التعديل الذى أدخل على دستور 1971 عام 1980، حتى التعديلات الدستورية التي أقرها الشعب في استفتاء 14 يناير من هذا العام التي تؤكد كلها أن النظام السياسي المصري يقوم علي التعددية الحزبية والسياسية.

وعلى هؤلاء أن يتنبهوا إلى أن ما تعانيه الاحزاب المصرية القائمة الآن سواء التي أسست قبل ثورة 25 يناير أو بعدها، هو نفسه ما عانته الأحزاب الكبيرة في الدول الديمقراطية عند نشأتها وأن الشعوب لا تكتسب خبرة استخدام الآليات الديمقراطية - من البرلمانات إلى الأحزاب ومن ممارسة حق الانتخاب إلى ممارسة حق التظاهر السلمى- بشكل صحيح إلا عبر الممارسة ومن خلال التجربة والخطأ، وبالتالي فإن تحويل الاحزاب الكرتونية إلى أحزاب حقيقية تحتاج إلى إطلاق حرية تشكيل الأحزاب على أسس ديمقراطية وليس حل ما هو قائم منها والتنافس الحزبي هو الذى يقوي بعض الاحزاب ويدفع بها إلى صدارة المشهد السياسي، وإلى انقراض أحزاب أخرى لكى تتحول إلى لافتة بلا مضمون، ووجود الأحزاب هو الذى يحول دون نشوء الجماعات المتطرفة التي تمارس العنف والإرهاب أو تخلط بين الدين والسياسة، أو تحول التظاهر السلمى إلى تظاهر بزجاجات الموتولوف وبنادق الخرطوش والرصاص الحى.

وعليهم أن يتنبهوا إلى أنهم حين ينسبون أنفسهم إلى المشير السيسي يسيئون إليه ويسيئون إلى ثورة 30 يونيو ويلعبون في ملعب اعداء الطرفين لأن هذه الثورة قامت ضد تيار كان يسعى لاحتكار الصواب ويرسخ لحكم الحزب الواحد، في قالب تعددي يتكون من تحالف يضم أحزاب الأهل والعشيرة، ولم تقم لكى تستبدلهم بعشيرة أخرى!