الإثنين 28 يوليو 2014 / 00:22

نستحق أعداء أفضل من هؤلاء



في المحصلة وبعد قرن أو يزيد من الصراع "معهم"، وبينما تنهمك غزة في البحث بين أنقاض البيوت عن أولئك الذين لم يتمكنوا من الموت في مناطق مفتوحة أو على شاطىء البحر، بينما تتحول الساعات الممنوحة للتنفس بين موتهم وموتنا فرصة لاستعادة أجسادهم الممزقة، يمكن لنا أن نقول بهدوء وبكثير من الأسى والإحساس بسوء الحظ، إننا نستحق أعداء أفضل من هؤلاء.

هذا احتجاج حقيقي ومؤلم، فهم، الأعداء الذين حصلنا عليهم، رسمياً، في آخر سنة من القرن التاسع عشر، ليسوا أكثر من قراصنة أرضييين ورعاع لا يتعلمون، لايملكون ذاكرة عدو حقيقي، ويصدقون الأشياء التي يعدونها لإقناع الشهود الذين أحضروهم من كوابيسهم مباشرة.

أعداء يواصلون تكرار نفس الأشياء المضجرة عن حقوقهم ومآسيهم، رغم أن كل شيء قد تغير، كل شيء تقريباً، فيما "هم" يواصلون دون ملل خطابهم الأول الذي بدأ في قاعة مغلقة في "بال" السويسرية قبل قرن وعقد ونصف من السنوات.

ليس ثمة فرق يمكن أن تتكىء عليه أو تضعه ضمن حسابات جدية لأي صراع، لا يمين ولا يسار ولا وسط، يتجمعون خلف قناعهم مثل كتلة صماء بلا ملامح، هناك يتجشؤون خلف القناع ويتحركون بجسد واحد ويشيرون بيد واحدة وينظرون بعين واحدة ويتنفسون برئة واحدة، ينامون ويتكاثرون هناك وراء القناع.

فقط موتنا هو غايتهم وبوصلتهم، يواصلون رحلة الصيد القادمة من أدعية وأيقونات دموية تدفعهم وتقودهم وتؤثث أرواحهم الميتة. يقلبون التاريخ والجغرافية في أقبية " العهد القديم" مع استعارات متعددة، حسب الحاجة، للإله واخضاعه لغسيل دماغ طويل لينطق باسمهم في المنعطفات الخطرة.

رغم أن كل ما حصلوا عليه بعد هذا العبث السياسي والديني والاقتصادي هو نموذج بائس لنظام ابارتيد هش ومتآكل وبدون "كليرك" أيضاً.

أعداء يواصلون جر حمولاتهم القديمة التي لم تعد تصلح للمقايضة في الأسواق الحديثة، حتى بعد أن أضافوا إليها "المحرقة" وحدّثوا فكرة "السبي".

أعداء فقدوا أسماءهم وهويتهم وألقوا بشتاتهم في الطرق البعيدة وقرروا إغلاق التاريخ الخاص بهم وتشغيل الإله بمهمة قاتل.

قتلة لم يتخلصوا من حنينهم الغريب لفكرة "الضحية" والامتنان لها، الفكرة التي غادروها منذ زمن طويل، ولم تعد مناسبة لمقاسهم الجديد، هي التي أوصلهم احتكارها الطويل الى بلادنا، وبسوطها الطويل جلدوا العالم الأبيض، لذلك سيقفزون ببراعة على حمالة سيارة الإسعاف بعد أن يحرقوا طفلاً على قارعة الطريق.

في هذه الحرب تبدد آخر نسيج في القناع ولم يعد ممكناً التخفي وراء الجثة والحديث باسمها وتقمص صوتها.

اليسار الذي يواصل خطف صيحة الضحية وقاموسها وجسدها المثقب بالرصاص، ويواصل في نفس الوقت الذهاب الى "الجيش" واطلاق النار من مسافة صفر على رؤوس الأطفال، والركض نحو محطات باصات الجيش عند أول اشارة لدعوة الاحتياط، ومباشرة بعد أن ينهي "خدمته" العسكرية ودون أن ينفض غبار المجزرة ودم الضحية يقفز نحو مسيرة الاحتجاج ويبدأ بالبكاء وإلقاء المواعظ الأخلاقية على القتلى.

العلماني اليساري الذي يحب السلام ولكنه بمجرد التطرق إلى فكرة "العودة"، عودة الفلسطينيين الى بيوتهم، يشهر في وجه العالم مقاطع مدروسة من " العهد القديم"، ويبدأ بسرد الوعود الإلهية وصولاً الى "معاداة السامية".

ورغم ذلك، رغم أنهم لا يحبون في اليسار الإسرائيلي أن يتذكر الفلسطينيون تاريخ نكبتهم وأن يحلموا بعودتهم إلى بيوتهم وحقهم البسيط في الحصول على اعتذار...، إلا أن الرجوع إلى عام 1948 وما سبقه يبدو ممراً اجبارياً ووحيداً يصعب تفاديه لفهم ما يحدث الآن، هذا ما فعلته غزة خلال الأسابيع الثلاثة الأخيرة، اعادة الصراع الى تلك النقطة بالضبط وتحرير الرواية الفلسطينية من عبث السياسيين وتدخلهم في متن الرواية واضافاتهم البلاغية الكثيرة التي حجبت الرؤية وضبّبتها، الأسئلة التي اندفعت نحو شوارع العالم مثل مكنسة هائلة تكنس الغبار عن مقدمة الرواية ومداخلها وهوامشها المتروكة خارج السياق وسحبها بقوة نحو الفصل الحالي ليبدو الأمر متماسكا ومفهوما وجديا، هذه الأسئلة/ المسيرات، وهذا يشمل المرأة الاسبانية النائمة على رصيف هوليوود تحت عبارة " مرواً، لا تتوقفوا ليس هناك ما يهم، فلسطيني آخر قتل"، مفردة "آخر" تمنح القتل تلك الآلية الدائمة، انهم يُقتلون هناك طوال الوقت وما يحدث الآن هو أنهم يموتون، عادي، عادي تماماً.

هل أستطيع أن أستثني عشرة أسماء أو مئة أو بضعة آلاف، هذا ممكن، ولكنه الاستثناء الذي يؤكد القاعدة فعلاً.

استطيع بامتنان أن أصافح صحافياً شجاعاً مثل "جدعون ليفي" الكاتب في "هاارتس"، أو "عميرة هس" التي اختارت العيش في غزة ثم رام الله، حيث كنا نلتقي في أكثر من مقهى، أو مؤرخ مثل "ايلان بابيه" آخر الناجين من مجزرة "المؤرخين الجدد"، الذي وثق حملات التطهير العرقي للفلسطينيين بعدالة مؤرخ وشجاعة بشريّ.

يمكن إضافة أسماء أخرى مثل " اوسنات طرابلسي" منتجة فيلم " أطفال آرنا" مع جوليانو خميس الذي اغتيل في جنين منذ سنتين، حتى تلك السيدة، القلقة بشكل مفرط على "يهوديتها"، التي همست لي في مقعد الطائرة في الطريق إلى "تورنتو" بإنجليزية سليمة: "هؤلاء لا يستطيعون أن يكونوا "يهوداً"، مجرد فاشيين يحملون "التوراة".