الإثنين 28 يوليو 2014 / 00:49

عِرْق التربيانكو



كتب أحد المراسلين من برلين، الألمان حائرون بين عقدة الهولوكوست، وضحايا غزة، ثم أخذ في وصف انتقال الصراع من غزة إلى شارع كورفورستيندام المحفوف بالأشجار غرب برلين. غريب من المراسل أن تأتي كلمة الأشجار بحس لا شعوري في بداية التقرير الصحفي، وكأنها دفاع ضد انتقال الصراع العنيف من غزة إلى شارع غربي هادئ محفوف بالأشجار، محفوف بالحضارة والجمال. يتابع المراسل تقريره بحسرته الجمالية. مضى نحو 1200 في مسيرة مناصرة للفلسطينيين، مروا خلالها أمام بيوت أزياء لمصممين مشهورين، فيما تابعتهم نظرات نساء أنيقات يشربن القهوة في المقاهي القريبة. الأشجار وبيوت الأزياء والنساء الأنيقات من رموز الحضارة الغربية. ما الذي يُهدد هذا المشهد؟ ما الذي يهدد زجاج الفاترينة؟ قد يُسأل في هذا الشرطي العالَمي الأمريكي صاحب فلسفات الفوضى الخلاَّقة التي لم يكن يعرف أن انتقالها جغرافياً ليس مستحيلاً في ضوء حضَّانات الأصولية المنتشرة في الغرب بتوجيهاته. هل الشرطي الأمريكي يفلت من يده الزمام؟ يحتاج إلى حرب عالمية ثالثة بتوزيع ديموجرافي جديد؟ بتوزيع ثروات جديد؟ المراسل لا يفكِّر في أسئلة كبرى، هو فقط خائف على الأشجار وبيوت الأزياء والنساء الأنيقات من 1200 متظاهر، وهم من الأقلية المسلمة كبيرة الحجم في ألمانيا. أقلية وكبيرة الحجم أو كما يقول طالب بليد عن تقديره الدراسي: مقبول مرتفع. أقلية كبيرة الحجم. يعني مع أنها أقلية، لكنها مقلقة. يتابع المراسل، نساء يرتدين الحجاب، وأحد قادة المظاهرة يتلو القرآن في مُكبِّر للصوت، ورفع كثيرون لافتات تدين التحركات الإسرائيلية، كما رددوا الحرية لغزة. بداية الإحراج، ليس إحراج المراسل فقط، بل إحراج الأشجار وبيوت الأزياء والتساء الأنيقات. عقدة الهولوكوست. يتابع المراسل، أصبح المشهد مربكاً عندما بدا هتاف 700 شخص من المتظاهرين المناصرين للإسرائيليين مُشابهاً لهتاف الفلسطينيين، فقد هتفوا قائلين حرروا غزة من حماس. مشهد فوضى خلاَّقة لم تحلم به كونداليزا رايس. يُفهم من كلام المراسل أن 700 متظاهر كانوا ضمن 1200 متظاهر، أي أكثر من نصف المظاهرة طلب من جهة غير معلومة تحرير غزة من حماس، وكأنهم لا يعولون كثيراً على ضرب إسرائيل لحماس، وكأنَّ إسرائيل معركتها ليستْ مع حماس، ولهذا يطلبون تحرير غزة من جهة غير معلومة، وكأنّ الإحراج المُضَاعَف منعهم من إدانة إسرائيل بشكل مباشر تماماً كما منع الإحراج المُضَاعَف هتاف الإسلاميين من التوجه مباشرة باسم جهة معلومة تقوم بتحرير غزة. يبدو أن الجهة غير المعلومة التي لا يستطيع أحد تحديدها لتحرير غزة، هم الفلسطينيون أنفسهم. يتابع المراسل متجاوزاً التناقضات التي لا يستطيع التعليق عليها، غير أن أبرز المتحدثين وأعلاهم صوتاً كانوا من الطلاب الناشطين اليساريين، وغالبيتهم ليسوا يهوداً، لكنهم متحمسون لمواجهة ما يرون أنه معاداة للسامية، وعلى الجانبين كان هناك شباب يبدو من الواضح أنهم يسعون للدخول في عراك. ربما يُفهم من تقرير المراسل الآن أن 700 متظاهر من المناصرين لإسرائيل كانوا في جانب، وأن 1200 متظاهر من المناصرين لفلسطين كانوا في جانب آخر. ولهذا نسحب تعبير الفوضى الخلاَّقة مؤقتاً إلى حين الاختلاط والاشتباك. إلا السامية ومعاداتها. ألمانيا كلها كوم والسامية كوم تاني. وكدة رجعتْ الفوضى خلاَّقة. يتابع مراسل الأشجار، صرخ مناصرو إسرائيل اليساريون في وجه أفراد الشرطة، وبحركة استفزازية غذوا السير في اتجاه المحتجين المناصرين للفلسطينيين، وفي المقابل سخر أنصار الفلسطينيين مهم، وصاحوا مرددين تهديدات، واشتبك الطرفان في مشاجرات. وأصيب سياح في مطعم قريب بالفزع عندما قفز ناشطون مناصرون لإسرائيل فجأة على المناضد، وهم يلوحون بالأعلام، ونشرت الشرطة أكثر من 1000 شرطي لمنع أي اندلاع للعنف. وفين الشرطي الكبير، شرطي العالَم. ودن من طين وودن من عجين. ثقلت عليه الشيلة. كل شرطي مع نفسه. أنا مش هِنا. أنا من بنها. يتابع المراسل، ونشطاء اليسار أنفسهم منقسمون، حيث لا يدرون ما إذا كان عليهم مكافحة معاداة السامية أم الدفاع عن الضحايا الفلسطينيين، وهناك النازيون الجدد بآرائهم المعادية للسامية. الألماني الصالح اتربَّى على الهولوكوست الكربلائي، محارق النازي، محارق سبيلبرج في فيلم قائمة شندلر، عقدة إسرائيل، عقدة وشْنيطة، عقدة بفيونْكة. وجود إسرائيل. ممكن الألماني الصالح يشك في وجود الدولة الإسرائيلية من غير ما يكون معادياً للسامية؟ ينفع؟ أنا عاوز عِرْق التربيانكو. يا تاخد العجل كله يا تروَّح. لكن عدد القتلى الفلسطينيين في غزة كتير. يصرخ الجزَّار في وجه الألماني الصالح: قلنا ما فيش عِرْق تربيانكو لوحده. يأخذ الألماني الصالح في النهاية العجل كله. في الطريق يرى الألماني الصالح صديقه مراسل الأشجار. يسعد برؤيته. يعانقه بسعادة. يعزمه على العشاء. ها عمل عِرْق التربيانكو بالملح والبصل والتوم والفلفل والجزر والطماطم والكرفس وورق اللاورو وجوزة الطيب.