الأربعاء 16 يوليو 2014 / 14:49

سقوط الخلافة العثمانية.. تقسيم تركة الرجل المريض

في كل الكتب التي حاولت تفسير أسباب سقوط الخلافة الإسلامية، من منظور ديني، ستجد أن ملخصها هو "الابتعاد عن تحكيم شرع الله تعالى الذي جلب للأفراد والأمة تعاسة وضنكاً في الدنيا"، وبحسب "السلفي" علي محمد الصلابي في كتابه "الدولة العثمانية عوامل السقوط وأسباب النهوض"، فإن "آثار الابتعاد عن شرع الله لتبدوا على الحياة في وجهتها الدينية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية".

أبوزيد: تركيا المجردة من كردستان وثراس وأزمير وسوريا وشبه الجزيرة العربية وجدت نفسها مختزلة إلى دولة أناضولية صغيرة في 1920

جاء قرار إلغاء منصب الخلافة في مارس 1924 مثيراً للضجيج والصخب العاطفي وأصبح طعنة أصابت الوجود الإسلامي في الصميم

والسؤال.. هل الخلافة مسألة عقائدية أصيلة في بنية الدين؟ أم أنها من المسائل الفرعية والفقهية و "من جملة الحقوق والمصالح المختصة بالأمة ولا علاقة لها بالاعتقاد"؟

مثل الآراء السابقة يتجاهل تماماً الجزء الثاني من السؤال، لأن الخلافة في وجهة نظر أصحابها مسألة عقائدية تماماً.

ولكن هناك وجهة نظر أخرى، تحصر مسألة الخلافة في تاريخ الأنظمة السياسية.

يقول الدكتور نصر حامد أبوزيد في مقدمته المهمة لكتاب "الخلافة وسلطة الأمة" إن ما يسمي بتاريخ "الخلافة" ليس إلا تاريخاً لنظام سياسي، ليست له علاقة بالدين من قريب أو من بعيد، نظام سياسي اختارته الجماعة وفق "موازين" القوى الاجتماعية وقدراتها السياسية، من جهة، ووفق المتاح من معرفة وخبرة تاريخية ثقافية، من جهة أخرى، ولعل هذا هو ما دعا ابن الخطاب لإهمال لقب "خليفة" مستبدلاً به لقب "أمير المؤمنين"، وهو لقب يكشف عن الطابع السياسي الدنيوي للمنصب، وظل هذا اللقب ملازماً للمنصب أمداً من الزمن، وأغلب الظن أن المنصب لم يستعد لقب "الخليفة" إلا بعد أن تحولت "الإمارة" إلى يد العسكر حين بدأت سيطرتهم على شؤون الحكم، لكن آليات الصراع السياسي على المنصب، خصوصاً منذ ما يسمى بعصر "الفتنة" جعلت كل فريق يسعى إلى تثبيت مشروعيته السياسية استناداً إلى "نص ديني".

في حماية الإسلام السني
يتتبع أبوزيد، في دراسته، الخلاف بين الدولتين الصفوية والعثمانية، ومحاولة العثمانيين الانفراد بإدارة شؤون المسلمين، وإغلاق ملف الخلافة العباسية الهزلية وحتى انهيار تلك الخلافة وتقسيم تركتها وإلغائها في مارس (آذار) 1924.

يقول أبوزيد إن المواجهة الفعلية بين الدولة الصفوية والدولة العثمانية لم تقع إلا في عهد سليم الأول، وهي المواجهة التي جعلت أيديولوجية الدولة العثمانية تتبلور أكثر فأكثر في حماية الإسلام "السنّى"، وبعث الخلافة الإسلامية "السُنية".

وكان مشروع السلطان سليم الأول للاستيلاء على مصر وسوريا جزءاً من تلك الغاية المهمة، والهدف الثابت للسلطان وذلك من زاويتين: الزاوية الأولى أن الإمبراطورية المملوكية كانت تبدو عام 156م "بوصفها القوة الرئيسية في العالم الإسلامي"، فقد كانت أراضيها تمتد من صعيد مصر إلى وسط الأناضول، محتوية فلسطين وسوريا، وكان السلطان المملوكي يحتفظ بحاميات في موانئ الحجاز، وكان شريف مكة تابعاً له، وكان يحتفظ في القاهرة بخليفة من أصل عباسي كان مختلف الملوك المسلمين يتوجهون إليه طالبين أذون تولية عند ارتقائهم لعروشهم، والزاوية الثانية أن الممتلكات العثمانية، بعد عمليات الإلحاق الكثيرة، لم تعد قادرة على الاتصال إحداها بالأخرى: "إلا بالدوران حول النتوء المملوكي الممثل في بلاد الرافدين العليا والذي كان يمتد، بعيداً عن عين طابا وملاطيا، وكان ذلك عقبة استراتيجية تثير قلقاً لدى السلطان من منظور شن عمليات تالية في اتجاه إيران".

ومعنى ذلك، بحسب الكاتب، أن فتح مصر ودمجها في الكيان السياسي للإمبراطورية العثمانية حقق للسلطان سليم الأول غايتين: الأولى استراتيجية، والثانية إيديولوجية وهي التي تعنينا، إن حمل السلطان سليم للخليفة العباسي "المتوكل" معه إلى الأستانة عام 1517م كان بمثابة محاولة لا تخلو من دلالة لإغلاق ملف الخلافة العباسية الهزلية التي استمرت أكثر من قرنين ونصف من الزمان، لكن هذا الإغلاق لملف الخلافة كان يستهدف فتح باب الخلافة العثمانية السنّية لمواجهة الدولة الصفوية المحتمية بالإيديولوجية الشيعية والمستولية على بغداد، ولا يخلو من دلالة أن نص الخطبة التي ألقيت في مساجد القاهرة في الأول من محرم عام 923م 22 يناير (كانون الثاني) 1517م، اليوم التالي للفتح، كان: "اللهم انصر السلطان ابن السلطان، ملك البرين والبحرين، كاسر الجيشين، سلطان العراقين، خادم الحرمين الشريفين، الملك المظفر سليم شاه".

الاستيلاء العثماني على الخلافة
يواصل أبوزيد سرده قائلاً: "في الأستانة وجهت للخليفة العباسي المتوكل تهمة الاختلاس، وتم سجنه، ثم سمح له بالعودة للقاهرة السلطان سليمان القانوني (1520- 1566م) حيث مات عام 1543م، وسواء قام هذا الخليفة المتوكل بالتنازل عن الخلافة للسلطان العثماني، كما تزعم بعض الوثائق المشكوك في صحتها، أم لم يفعل، فقد قام حكام تركيا في القسطنطينية بالاستيلاء تدريجياً على كل سمات الخلافة وملامحها، حتى وصلوا إلى اللقب ذاته، ورغم أن بعض خلفاء سليم الأول اعتبروا أنفسهم خلفاء وكانوا يحبون أن يُخاطبوا بهذا اللقب، فإن اللقب كان لقباً إضافياً، كما أنه لم يكن يستخدم خارج حدود المناطق الخاضعة للنفوذ العثماني، وأول وثيقة دبلوماسية تتضمن اللقب خليفة صفة رسمية للسلطان العثماني هي الاتفاقية الروسية التركية (كوتشوك- كانيارجي) الموقعة عام 1774م، والتي تعترف بالسلطة الدينية للسلطان على المسلمين خارج تركيا".

ويستطرد "صاحب فلسفة التأويل قال إن هذه الفجوة الممتدة من القرن التاسع إلى القرن الثامن عشر، بتدرجاتها وانحناءاتها، هي تاريخ الخلافة الإسلامية التي استقلت عنها السلطنة استقلالاً شبه تام في البداية، ثم أصبحت السلطنة مهيمنة على الخلافة ومسيطرة عليها سيطرة كاملة بعد ذلك".

ويلفت الكاتب إلى "أن حصول عبدالحميد الأول على لقب خليفة لا يعني عودة الخلافة إلى مسار التاريخ الإسلامي، بقدر ما يبرز التوظيف الإيديولوجي للقب في الصراع العسكري السياسي الذي كانت تخوضه الإمبراطورية العثمانية على أكثر من جبهة، كان توقيع اتفاقية (كوتشوك- كانبارجي) بمثابة الفصل الافتتاحي فيما أصبح يعرف باسم (المسألة الشرقية)، التي تتطابق مع جملة الوقائع التي تدور بين عامي 1774 و1923 العام الذي وقعت فيه معاهدة لوزان، وتتلخص السمتان الأساسيتان لهذه الوقائع في التمزق التدريجي للإمبراطورية العثمانية وتنافس الدول العظمي بهدف فرض سيطرتها أو نفوذها على أوروبا البلقانية والبلدان الواقعة على الجانب الشرقي للبحر المتوسط حتى الخليج الفارسي والمحيط الهندي، وعلى ضفافه الجنوبية. فالروس، متذرعين بحماية الأرثوذكس والسلاف، يرمون إلى مد سيطرتهم على البلقان وإلى الوصول إلى البحر المتوسط، والإنجليز يسعون إلى حماية طريق الهند، ومن ثم إلى السيطرة على الممر الذى يفصل البحر المتوسط على المحيط الهندي، ومن ثم هذا الاهتمام الذي يبدونه بالبلدان العربية في تلك المنطقة، والفرنسيون يريدون الدفاع عن مواقعهم التجارية والثقافية لدى مسيحيي المشرق ويجدون أنفسهم في تعارض، بحسب الظروف مع الروس أو الإنجليز. والنمساويون الخائفون من توسع النفوذ الروسي في البلقان، يحاولون إقامة سد هناك، خاصة في البوسنة والهرسك، وفيما بعد، سوف يهتم الألمان هم أيضاً بالإمبراطورية العثمانية من منظور سياسة الدرانج ناس أوستين الاندفاع نحو الشرق".

ويضيف "الحال أن الحروب التي سيخوضها العثمانيون خلال القرن التاسع عشر سوف تكون كلها تقريباً خاسرة وسوف تؤدي إلى حرمان الإمبراطورية، قطعة قطعة، من شبه إجمالي أراضيها في حين أن انتقال جانب كبير من مواردها تحت سيطرة الشركات الغربية سوف يسهم في اختزالها وفي تأكيد تبعيتها".

الحلفاء يحتلون أرض الخلافة
وتابع أن "هكذا تنتهي الحرب العالمية الأولى، ويتم تقسيم تركة الرجل المريض، لأن الإمبراطورية العثمانية لم تخسر الحرب وحدها، بل كفّت في واقع الأمر عن الوجود، حتى وإن كانت خرافة دولة مستقلة قد بقيت على الورق، لقد احتل الحلفاء أرض تركيا ذاتها، وهذا هو معنى خرافة الدولة المستقلة، لذلك كان هدف الحركة الكمالية، بزعامة مصطفي كمال، أساساً هو رد الثقة إلي الجيش العثماني الذي أصابته الهزيمة بالتفسّخ العميق، وكذلك السعي إلي إعادة تجميع كل حركات المقاومة تحت سلطة موحدة، والخصم الذي يجب محاربته ليس هو المحتل الأجنبي وحده، فسوف يكتب مصطفي كمال فيما بعد، لابد مهما كان الثمن من الثورة على الحكومة العثمانية، على السلطان، على خليفة كل المسلمين، وحث الجيش والأمة كلها على الثورة".

ويوضح الكاتب "مما زاد حالة من الغليان والسخط ضد الحكومة العثمانية وسلطانها خليفة المسلمين التفافها حول نضال الكماليين ضد المحتل في الأناضول وتورطها في مساومات صلح طويلة مع الدول الأوروبية، انتهت إلى الإذعان للإملاء الذي فرضته عليها الدبلوماسية الأوروبية، هكذا تؤدي معاهدة (سيفر) الموقعة في 10 أغسطس (آب) 1920، إلى تكريس تمزيق الإمبراطورية العثمانية، والواقع أن تركيا، المجردة من كردستان، ومن الولايات المتحدة التي يسكنها الأرمن، ومن ثراس، ومن إقليم أزمير، ومن سوريا، ومن شبه الجزيرة العربية، ومن بلاد الرافدين، إنما تجد نفسها مختزلة إلى دولة أناضولية صغيرة محصورة بين بلدين ماتزال حدودهما غير محدودة: أرمينيا واليونان".

ويضيف أنه "إذا كان انتصار الكماليين واستردادهم لأزمير في 9 سبتمبر (أيلول) 1922 قد مكّنهم من محو المهانة التي شكلتها معاهدة سيفر بإملاء شروطهم في معاهدة لوزان في 24 يوليو (تموز) عام 1923، فإن ذلك أمكن تحقيقه بعيداً عن السلطنة التي كان قد تم إلغاؤها في نوفمبر عام 1922 لصالح حكومة أنقرة، التي اعتبرت نفسها السلطة التشريعية الوحيدة. وفي 29 أكتوبر (تشرين الأول) 1923 أعلن المجلس الوطني في أنقرة تركيا جمهورية، إن إلغاء السلطنة كان يعني ضمناً إلغاء منصب الخلافة، لكن المجلس الوطني فصل بين الأمرين في البداية. لذلك لقي قراره التأييد، خاصة في مصر، لأن الخلافة والسلطنة كانا لفترة طويلة كما رأينا شأنين متمايزين، هذا بالإضافة إلي أن القرار لم ينشئ وضعاً جديداً، ولكنه قنّن واقع الحال معترفاً بالمتغيرات التي لا مجال لإنكارها".

ويختتم الكاتب "ثم جاء قرار إلغاء منصب الخلافة في مارس (آذار) 1924، وهو القرار الذي أثار من الضجيج والصخب العاطفي ما أثار، ولايزال، في نفوس المسلمين. ومع نمو تيار الإسلام السياسي أصبح القرار طعنة أصابت الوجود الإسلامي في الصميم، كأنه هو الذي قسم وحدة العالم الإسلامي، وهي وحدة موهوبة إلى حد كبير كما رأينا، وكان ثمة سعي، وراءه الإنجليز، لتنصيب الملك فؤاد خليفة للمسلمين، وكان ثمة أطماع من زعماء آخرين كالملك حسين بن علي الذي أخذ البيعة لنفسه في فلسطين وشرق الأردن، وأمان الله خان ملك الأفغان. ولعل هذا التنافس على المنصب هو الذي أفسد المؤتمر الإسلامي الذي انعقد في القاهرة في مايو (أيار) 1926 ولم يسفر عن شيء".