الخميس 17 يوليو 2014 / 11:46

قطعة أرض بعد نهاية العالم

ترجمة: أحمد شافعي

(1-2)
عندما يحتمل أن يسقط الجليد أو الصقيع أو الثلج، ولو بكميات ضئيلة، أنقل سيارتي إلى أعلى التل المحيط بمزرعتي، فإن احتجت بعد هذا إلى الخروج بها في مهمة، فإنني أصعد إلى هناك. هي سيارة قديمة، وطريقها إلى مزرعتنا يمتد منحدرا لنحو ربع ميل، وبحسب عمق الجليد، ومدى تركيزي أو تشتت انتباهي، قد يستغرق سيري إلى السيارة ما بين دقائق قليلة ونصف ساعة. وعندما أرجع أركنها في المكان نفسه، وأمشي إلى البيت، حاملا بريد اليوم أو مشترياتي البسيطة عبر الغابة. وعند خروجي من وسط شجر الغابة عند أدنى التل ورؤيتي المزرعة مكسوة بالجليد، أراها مجتثة من الزمن، مثلما أنا نفسي مجتث من الزمن.

تقلني سيارتي إلى الجيران، والمتاجر، والبلدة، وعبر المرج. ويحتوي بيتي ـ وهو حظيرة (شبه) معدَّلة ـ هاتفا ووصلة إنترنت تربطني بالأصدقاء، والأقارب، والزملاء، وكون المعلومات والتشتيت، والعالم الحديث. وبين السيارة والبيت قطعة الفضة من الأرض التي أجرب فيها يدي في الزراعة مثلما مورست قبل ألف سنة.

طالما افتتنت بالانتقال من مرحلة القنص والتقاط الثمر إلى مرحلة الزراعة. فالقدرة على الغرس، والرعاية، وحصد المحاصيل، تقف جنبا إلى جنب نشوء الوعي بالذات، والسيطرة على النار، والعجلة، واختراع الرياضيات واللغة المكتوبة، بوصفها إحدى الحوادث التحولية البشرية. لقد أصبحنا غير ما كنا عليه بمجرد أن بدأنا الزراعة.

وجدت شيئا كذلك يجري بداخلي. فلقد تعاملت مع أرضي، لأسباب كثيرة منها المالي ومنها الفكري، بأدوات أغلبها كان متاحا سنة 1014: كالمحشَّات والمناجل والفؤوس التي يمكن تبيانها في اللوحات والنسيج المصور الذي يرجع إلى القرن الحادي عشر. ترى لأي فترة كنت لأقوى على البقاء لو ألقت بي آلة زمن في الماضي أو إذا وقع انهيار من ذلك الذي يتواتر وقوعه في أفلام نهاية العالم؟

ثمة شيء من التضليل في القول بأن أرضي (التي تبلغ مساحتها خمسة وثلاثية أكرا) مزرعة، ولكنه ليس كالتضليل في القول إني مزارع، وهو شيء لا أمارسه مطلقا. جيراني هم المزارعون الحقيقيون، الذين يكسبون عيشهم من الزراعة. حقولهم ومراعيهم واسعة ومرتبة، مزروعة ومخصَّبة، يتعهدها بالرعاية عمال وآلات. أما حقولي التي لا يتعهدها غيري ففوضوية، مرتجلة، وفي الغالب مستوجبة الحصاد دونما حصاد. غير أنني، وبدون أن أرفع صوتي بما أقوله، بت على مدار العامين المنصرمين أزداد نظرا إلى نفسي بوصفي مزارعا، أو مزارعا من نوع ما. مزارعا كالذي كان في القرن الحادي عشر أو نحو ذلك، برغم أنني في واقع الأمر أعرف تمام المعرفة كم هو قليل ما أشترك فيه مع ذلك المزارع الحقيقي، وكم هي ضعيفة مهاراتي وعاجزة عن تهيئتي للحياة فعلا في ذلك الزمن.

وصلت إلى القرن الحادي عشر عبر ظروف معينة مررت بها في حياتي وفي وظيفتي. كنت في أواسط التسعينيات قد اشتريت المزرعة لتكون منزلا للصيف والإجازات، على سبيل المهرب والملاذ، وكان جزء من جاذبيتها يكمن في الحظيرة القديمة شبه المجهزة للمعيشة. فكان في طابقها الأرضي كهرباء، ومياه جارية من بئر جيد، وسخان مياه، وحوض ومرحاض، ونظام للصرف. وكان هناك خط للهاتف، ومن ثم إمكانية للاتصال بالإنترنت من خلال الهاتف الأرضي (وهي في الحقيقة وسيلة الاتصال شبه الوحيدة بالإنترنت في ذلك الوقت). وأقرب البلدات بلدة روكي ماونت، وفيها أربعة آلاف نسمة، وتقع على بعد خمسة عشر ميلا. وفي الليالي الصافية، عند تخفيض الإضاءة، كانت النجوم تبدو قريبة وساطعة كما لعلها كانت قبل ألف عام.

كان الإيقاع في السنتين الأوليين للملكية إيقاعا وديعا، وأعني بالوديع ما كنت أشعر به فور وصولي بعد أسبوع عمل أو في مستهل إجازة. كنت في ذلك الوقت لا أزال رئيس تحرير مجلة أومني، كثير السفر في أنحاء البلد وفي الخارج. وزوجتي كانت معلمة في مدرسة ثانوية. وكانت المزرعة ملاذا للإجازة الأسبوعية، للتجدد، للبستنة والاستكشاف. تركت أغلب الحقول على حالها، لولا أنني كنت أستأجر لها الجيران في مقابل بضع مئات من الدولارات لحرثها بالجرَّار بضع مرات في العام. وكنت أستمتع إذ أشاهد مزارعا خبيرا يسوق الجرَّار ساحبا من ورائه ما يقص به الحشائش والشجيرات الصغيرة. ولا بد أن أغلب أصحاب مزارع الإجازات الأسبوعية رأوا من المنطق أن يشتروا جرارا صغيرا أو على الأقل مجزا للأعشاب. أما أنا فلا. كان ليوافق المنطق في حالتي أن أشتري سيارة دفع رباعي أيضا، ناهيكم عن المولِّد تحسبا لفترات انقطاع الكهرباء، لكنني لم أفعلها.

وحينما كانت تهب عاصفة كبيرة أثناء الشتاء الأول لنا في المكان، كنا نبقى في جرينسبورو بكارولينا الشمالية، على بعد تسعين ميلا. وكنت أتمنى وقتها لو أنني في المزرعة. كنت أريد أن أعرف كيف يكون الحال حينما يعصف الجليد ويقطعني عن العالم، ربما بدون كهرباء. وناقشت أصدقائي في ذلك. كنا جميعا قد قرأنا طرفا من أدب ما بعد نهاية العالم ـ من قبيل The Stand لستيفن كينج (1978) و Farnham’s Freehold لروبرت هاينلاين (1964) و The Wild Shore لكيم ستانلي روبنسن (1984) وقبلها جميعا Earth Abides لجورج آر ستيوارت (1949). وبعدما اشتريت المزرعة، اتفقت وأصدقائي أن يقصدوا مكاني ذلك بعدما تقع الواقعة.

كانت مسألة مزاح وفضول، ولم تتعد ذلك في وقتها. كانت الأكرات الخمسة والثلاثون والحظيرة التي أصبحت كوخا هي مكافأة سنين قضيتها بين المكاتب أو مسافرا لحساب المجلة. ولم يكن لي اهتمام بالحياة كسيد من سادة المزارع. كان كل ما أريده هو مكان هادئ أمضي إليه.

ولعل فكرة تحولها إلى ما هو أكثر من ذلك قد خطرت لي في أول ليلة قضيتها هناك، في أكتوبر بارد، ولم تكن الكهرباء والهاتف قد عادا إلى العمل، ولا مياه جارية، ولا تدفئة. كانت الريح تعصف بالخارج وأنا أقرأ قصة ناثانيل هوثورن القصيرة Young Goodman Brown في ضوء مصباح زيتي وفر لي نفس مستوى الإضاءة الذي ربما كان يوفره لهوثورن نفسه وهو يكتبها سنة 1835.

وما انتهيت من القراءة، حتى مضيت أمشي إلى طرف الغابة. وبرغم أن شخصية هوثورن، التي ترحكها قوى مقبضة، قد اخترقتني بالفعل، إلا أنني لم أكن مستعدا بعد. رجعت إلى البيت ونمت جيدا. وفي الصباح التالي، وجدت نفسي أفكر أنني يمكن أن أعيش هنا، ولو لزم الأمر، يمكننا أن نعيش هنا على تلك الحال. وفي وقت لاحق من ذلك اليوم، رجعت إلى المدينة، وما كاد أسبوع العمل يبدأ، حتى وجدت نفسي في المكتب، وعلى الطائرات، أسافر في البلد وفي العالم لحساب أومني، أتكلم وأكتب عن المستقبل. ولكنني في ذلك الوقت كنت أفكر وأزداد تفكيرا في شيء واحد: أني قادر أن أعيش هناك، في مزرعتي.

لا أقول إني كنت أخطط لأي شيء.

***
التخطيط من المهارات التي تطورت مع الزراعة. فلقد كان التنظيم، والمجتمع، والتعاون، والقدرة على الاستشراف ضرورات للمزارع في القرن الحادي عشر. فلو أنك تريد محصولا في العام القادم، فخير لك أن تختزن وتدخر بعضا من بذور محصول العام الحالي. ناهيكم عن تخزين الغذاء نفسه للشهور الخالية من الإنتاج، وربما الشهور العصيبة التي تتواتر في سنة المزرعة. عليك أيضا أن تختزن المعرفة المتعلقة بكيفية غرس تلك البذور وكيفية حصد نتاجها، وكيفية نقل هذه المعرفة من جيل إلى جيل يليه.

ولقد انشغلت البشرية، على مدار أغلب فترات تاريخها المسجَّل، بهذا المسعى: أعني الزرع وإطعام الأسرة، والقبيلة، والقرية والمجتمع، والأمة، والعالم. وببطء، وعلى مدار مئات السنين وآلافها، طرأ التحسن على الزراعة وتربية الحيوانات.

كان الناس يرجعون من ارتجالهم بالأدوات التي تعينهم على تحسين زراعتهم مثلما يرجعون بالطرق الجديدة وسبل تنفيذها. وأدت البراعة في تشكيل المعادن إلى زيادة فعالية الأدوات وكفاءتها. فالرفش أو الجرافة أو المعزقة المعدنية ليست مجرد تقدم في صنع الآلات: إنما هي تمكين لقلة من الناس أن تنتج كثرة من الغذاء، وهو ما يفرِّغ آخرين للعمل في مهن جديدة. وبذلك حررت الزراعة مزيدا من الأفراد فصاروا تجارا، وطحانين، ونساجين، وحدادين.

بحلول القرن الحادي عشر، كانت أغلب الآلات غير المميكنة التي بحوزتي مستخدمة منذ قرون، ولكن الرفش والمنجل والجرافة والمعزقة سوف تبقى أساسية لقرون تالية، فتصل إلى العصر الحديث. ولقد حكى لي أبي، البالغ من العمر تسعين عاما الآن، عن حصد الشعير مرة باليد، وعن السير وراء محراث، وعن رؤيته جدي يجرُّ بحصانه جذوع الشجر، ثم عمله بيديه على أثار سير الحصان والجذع محيلا إياها إلى خطوط للزرع. ترك أبي الزراعة، لكن جيراني لا يزالون يتذكرون أيام كان أسلافهم يعملون في الحقول بأيديهم وبحيواناتهم، وإن كانت مزارعهم هم مميكنة اليوم، بل ومنذ عقود.
في يوم مشهود لا ينسى، علمني أحد الجيران كيف أمرر النصل المنحني الطويل لمنجلي ذي اليد الخشبية ليجزّ العشب الطويل أو سيقان القمح عند مستوى سطح الأرض، فحين يتم هذا على النحو الأمثل، لا يكون الجز قطعا أو تهشيما، بل فعل انسياب وإيقاع يتم بعضلات الخصر لا بالذراعين. فمن كان يعرف؟

كان المنجل الذي أستخدمه هو الذي تطور منذ العصور السحيقة. وبحلول العصور الوسطى، كان نصله الحاد يخرج من بين يدي الحداد بسنوات خبرته ومهارته الطوال. أما مقبضه الإضافي (أي اليد الخشبية الطويلة المنقوشة في الغالب والتي يتصل بها النصل) فطوَّرت قدرة المزارع على التحكم في الأداة واستعمالها وجعلت استخدامها أكثر تحليا بالكفاءة. وما لم يحاول المرء أن يستعمل منجلا بإمساكه المقبض، إمساكه مثلا لمضرب كرة القاعدة أو الكريكيت، فمن الصعب عليه أن يقدر كمّ الإبداع في هذه الأداة.

كان ما يجذبني إلى المنجل وغيره من المصنوعات العتيقة هو الفضول، بل الشهوة ـ شهوة ابن المدينة أن يلعب بأدوات المزارع ـ إلى أن انتقلنا انتقالا نهائيا إلى المزرعة في عام 1997، أي بعد عام من إغلاق أومني طبعتَها الورقية وتحولي من جديد إلى كاتب مستقل.

كان الدافع إلى الانتقال النهائي هو المرض. فنتيجة لذلك المرض، لم تستطع زوجتي أن تستمر في التدريس، ولم يكن من الممكن الاعتماد على دخل كاتب مستقل لفتح بيتين. فصارت المزرعة بيتنا. وكنا نأمل أن نقيم بيتا صغيرا، حقيقيا، ونجعل من الحظيرة المعدلة إلى كوخ مكتبا لي ومكتبة. ثم لم يُقَم البيت الصغير مطلقا.

خططت لحديقة طموح وإن لم تكن كبيرة الحجم، قوامها فقط مائة ياردة حول الكوخ القديم، واستأجرت جارا لحرثها. وصرت آتي مرتين في العام بجيران يجلبون الجرارات لتسوية المروج فتبقى منبسطة دائما. وملأت حديقتي بالطماطم والبقول والفاصوليا والبصل والقرع والخيار والذرة والأعشاب. ووضعت مكتبا صغيرا فبي فسحة من الأرض تشرف على الجدول العريض المار بحديقتي. وبالورق والقلم الرصاص كتبت هناك أجزاء كبيرة من كتابين لي، فدوَّنت مئات الصفحات هناك وسط توالي الفصول، ثم رجعت إلى القرن العشرين فجمعت ما كتبت باستخدام الكمبيوتر داخل مكتبي. ولما حل الخريف استأجرت جارا لجز العشب في الحقول والمروج لترجع منبسطة مستوية من جديد.

كان تدبر كل ذلك ممكنا ما استمر اقتصاد الكاتب المستقل جيدا، وكان اقتراب الألفية يوفّر ازدهارا للكتاب المستقلين. ولكن الكتابة المستقلة ـ من نواح عديدة ـ أشبه باحتراف القنص والتقاط الثمار، ولقد انهارت أسواقي الكتابية مع صعود الإنترنت.

ولكن أفدح العوامل كان يتمثل في المرض العقلي، الذي بدا في بدايته صعبا على العلاج، ثم انتهى عصيا عليه، حينما طغى على زوجتي. ازداد الاكتئاب عمقا عليها فلم تنسحب من العالم الكبير وحده، بل ومن العالم القريب اللصيق ـ من المزرعة التي اشتركنا فيها ذات يوم. وبعدما كانت تخرج بمثل حماستي لاستكشاف الحقول والغابات، توقفت عن الخروج بالمرة، إلا زيارةً ـ لا نفع فيها ولا جدوى منها ـ لطبيب أو معالج. ووجدت نفسي ممرضا.

يتبع
يكتب كيث فيلر القصة والمقالة وألعاب الفيديو. عمل رئيسا لتحرير مجلة أومني وصدر أحدث كتبه بعنوان "فك شفرة التاريخ" بالاشتراك مع براد ميلتزر

عن مجلة أيون

قطعة أرض بعد نهاية العالم
(2-2)
كيث فيلر
ترجمة: أحمد شافعي

غير أنني وأنا أعتني بها بسبب نقص الموارد صرت أزداد عجزا عن الاعتناء بالمزرعة. فطال العشب، وبدأت النباتات الشوكية تستشري، وانتهكت الغابة ما كنت قد بدأت أعتبره نظاما وهميا مصطنعا وثابتا.
بغير تشذيب ولا تهذيب، تحولت حقولي ومروجي بحارا من العشب الطويل وأدغالا من الورد الكثيف المنيع والتوت البري، وبلغ العشب في بعض المناطق حتى الكتف، بل وطال الورد الجبلي أكثر حتى من ذلك. وباتت التمشية الممتعة إلى الحديقة الكبيرة أو إلى المكتب الخارجي المجاور للجدول مسارا تعترضه الآكام والأشواك. فقدت مرجا، وأكرات عديدة، استولت عليها أشجار الصنوبر. وسواء كانت التسوية والتهذيب تتمان بالجرارات والجزازات، أم بالمناجل والبلطات، فإن الأرض المستوية مصطنعة، وكل مصطنع بحاجة إلى موالاة.
عاجزا عن توفير الجز المكلف واسع النطاق لأرضي، وجدت نفسي أنعزل مستسلما لغزو العنب والقصب والشجر، لكنه انعزال علمني دروسا أكثر من التي تعلمتها عبر سنين من دفع المال. كنت أثناء قدرتي على دفع تكاليف جز الأرض كل ربيع وخريف، أستطيع أن أسير أينما شئت، وأفعل هذا مرتديا البنطلون القصير وأحذية التنس في أوقات الدفء. ثم صار المشي في أغلب أجزاء أرضي يقتضي حذاء طويل الرقبة قوي الجلد وبنطلونا طويلا وقميصا طويل الكمين، وحتى مع كل تلك الاحتياطات كانت تتكالب عليّ الخدوش والجروح من فروع الشجر والشوك. تبين أن الفارق بين الصخور الصغيرة صغر حبات العنب التي يقلبها الجرار في لحظة، ونفس الصخور إذ تستخرجها اليد من الأرض كان فارقا يعرفه عقلي بالفعل، وسرعان ما عرفه جسمي.
تعلمت أشياء أخرى كذلك: كيف أتعامل مع البري من العشب والزهور الذي يأتي على الحقول المحروثة، وكيف أنني ينبغي أن أعمل في شجيرات التوت البري الشائكة بالبلطة لا سيما في البقاع الكثيفة، وعلى يديّ وركبتيّ بآلتي القص والتشذيب. وبالعمل عند مستوى الأرض، تعلمت الإنصات للهامس: لأصوات رقيقة تنبعث من احتكاك نصل الشرشرة الصغير المنحني (وهي بنت عم المنجل الكبير الرضيعة) إذ تجز عيدان القصب، وحفيف الأرانب والفئران إذ تعدو وسط الآكام، وطنين النحل، وصيحات الطيوار الغاضبة من اقتحامي عالمها، وأصغيت مرة لصليل أفعى من ذوات الأجراس لا يمكن للأذن أن تخطئه.
بالعمل على هذه المقربة من الأرض وجدت قدامَى المزارعين يغزون أفكاري. كنت مثلهم، بصورة أساسية. بلا مال ولا آلات أستعين بها على تسوية أرضي وتمهيدها في سويعات قلائل، رحت أسأل نفسي: كيف يمكنني أن أتدبر أموري بما بين يدي؟
وبدأت عناصر تجربة في التشكل. بدأت أرى كيف لرجل من القرن العشرين ـ ابتاع مزرعته بأموال عادت عليه من الكتابة والتحرير وإلقاء المحاضرات عن المستقبل ـ أن يعيش كمزارع من مزارعي القرن الحادي عشر. فلقد كنا نعيش في ذلك المكان، سواء تدبرت المال اللازم لخدمته أم لا. كنت هناك بلا عون.
ما كان مزارعو القرن الحادي عشر الذين توسلت بهم ليواجهوا هذا منفردين، كان الواحد منهم ليحظى بأبناء وأقارب وربما بقطعان من الحيوانات للحرث والجر. وأنا بزوجة تفرض على نفسها الحبس الانفرادي في البيت، وبولد تزوج ولم يعد يزورنا إلا لماما، كنت مصدر العمالة الوحيد المتاح لي، فبدأت أختار النقاط التي سأبذل الجهد فيها، لأبقي إحساس المزرعة في بعض المناطق على أقل تقدير، أو الإحساس بما ينبغي أن تكون عليه مزرعة، بما تقدمه مزرعة. بذلت أقصى الجهد محاولا الإبقاء على المنطقة اللصيقة بالبيت ـ أعني الفناء وامتداده الذي يمكن بأمانة وصفه بالمرج ـ منضبطة مستوية. جعلت على مقربة من البيت، بينه وبين الحديقة، مساحة للخضراوات.
وجعلت فكرة القرن الحادي عشر تلك ماثلة في رأسي، رؤية ولعبة. فإن أدرت ذراع جزازة العشب، أو أدرت في بعض الأحيان محراثا آليا أستعيره من جار، كنت أفعل ذلك وأنا أحسب المكافئ لساعة عمل آلي من العمل بطاقة الحصان أو الثور. كنت أفكر في ما كان ليعنيه هذا لأسلافي الخياليين الذين كنت أراهم في صورة ضبابية يعيشون على حافة غابة هائلة في إنجلترا أو أوربا معزولين عن المدن والبلدات. انتقل أسلافي الوهميون إلى أيرلندة، ومن هناك عرفت بأمر الحرث بالمسحاة وهو تكنيك قديم لحرث التربة الجبليىة أو الصخرية التي يتعذر حرثها على الخيول. المسحاة أداة كانت عندي. كنت آخذ مسحاتي وأحفر بها، مبعدا الصخر والجذور، مقيما في الأرض خطوطا مستقيمة قدر استطاعتي (ولم تكن استطاعة كبيرة) جاعلا التراب على جانبي الخطوط. وبعد عمل لساعات أكون تمكنت من غرس قليل من بذور البطاطس.
أكثر الأدوات التي كنت أستخدمها هي الفأس المعولي، وهي فأس من طرف ومعول ذو سن مدبب من طرف آخر. وكانت مفضلة أيضا منذ ألف عام، فهي ذات رأسين أحدهما للحفر، والآخر للقطع، مما يعطيها استعمالات لا أرى ما يضاهيها في تعددها. كانت المسحاة ذات يوم تسمى "محراث الفقير"، وإنني أنظر نفس هذه النظرة إلى فأسي المعولي الذي أستخدمه لحفر الأرض، وتقطيع الجذور، وتقليب التربة وتهيئتها. ولو خُيِّرتُ في أداة واحدة لاخترت الفأس المعولي.
بالتدريج فقط أدركت أنني أشترك في أشياء كثيرة مع الناجي من نهاية العالم ـ والمرض المزمن والأزمة المالية بطريقتيهما أمران كارثيان شأن نهاية العالم ـ أكثر مما أشترك مع مزارع من القرن الحادي عشر. فأولئك المزارعون، في نهاية المطاف، كانوا يعرفون ما يفعلون، وكانت حياتهم كاملة تنقضي في فعله. كانوا أكثر تهيؤا لحياة ما بعد نهاية العالم في أرضهم أكثر مني أنا أو من أي شخص عرفته.
والحقيقة المركزية في الحياة اللصيقة بالأرض هي أن الأرض تعلمك بذاتها ما أحسنت أنجازه وما أخطأت فيه. أرضي أنا كانت في الغالب تبين لي أخطائي. فالصنوبر الانتهازي، الذي كنت أعثر عليه بالصدفة، وأتركه دونما اقتلاع له في صغره، سرعان ما كان يتحول إلى أشجار باسقة. والتوت البري حينما كان يتفجر منتشرا على الأرض، ثم لا يمر زمن يذكر حتى يجعل إقامة الطرق أمرا محالا. وأول ظهور للغازي هو أمثل وقت للقبض عليه ـ وذلك أمر طالما عجزت عنه. ففسائل صنوبر السنة الحالية تجاور غابة السنة القادمة مستولية على واحد من أحب المروج إلي.
ولكن حتى المواضع التي أخصص الوقت لرعايتها، لا سيما حديقتي، فقد كان تعبي فيها واضحا. ويكتب رالف والدو إيمرسُن في يومياته في مايو من عام 1843 عن الصراحة التي يعامل بها خط من البازلاء المزارع فيقول "إن حديقتي شديد الصراحة. كل شجرة فيها وكل كرمة عاجزة عن المداراة، فتقول بعد شهرين أو ثلاثة بالضبط أي نوع من المعاملة لقيته. فقد يخطئ الزارع ويبذر الحب معوجا، ثم لا تخطئ البازلاء، فتنبت لتكشف عن اعوجاج الخطوط".
أما خطوطي أنا ـ التي تكون مثالية الاستواء حينما تحرث الأرض بالجرار ـ فبات نادرا أن تستقيم، بل تهزأ بي التواءاتُها وانعطافاتُها وتملي السخرية والصراحة على أفكاري. هل كان إعلاني أنني "سأتدبر أموري بما بين يدي" مجرد إنكار للواقع؟ لقد كانت ظروفي تطالبني ببساطة بأن أترك المزرعة وشأنها، ومعها عمل الكاتب المستقل، وأن أرتد إلى جرينسبورو أو أية مدينة أخرى وأبحث فيها عن وظيفة. ولكنني استمرأت.
في ثنايا أسوأ مشكلاتي الاقتصادية، أوشكت أن أفقد كل شيء، وكنت أتساءل إن كان في ذلك خير محتمل لي ولزوجتي ولأرضي. كان بوسع شخص آخر، أعرفه فعلا، أن يأتي بالمال والمعدات وينقذها في غضون فصل واحد. خاصة وأن ما حدث لم يكن نهاية العالم والسلالة بل نهاية فردية لعالم شخص ـ كان بوسعي أن أحزم أغراضي، وأرحل، وأبدأ في مكان آخر. ولكنني بقيت أومن أن من الممكن تغيير مساري المهني والزراعي، وأنني لو أضطررت بالفعل إلى أن أعيش على ما أزرعه، فإني قادر أن أعيش على ما أزرعه.
كانت باذلائي لذيذة بغض النظر عن عدم استواء خطوطها. والبطاطس المقتلعة من الأرض بالمسحاة والمجرفة والفأس المعولي حسنة الشكل والقوام، ولذيذة ومغذية. لم أستخدم مطلقا أسمدة صناعية، فكل ما كنت أنتجه كان طبيعيا يتغذى على النباتات المتحللة، والروث (وكان عندنا حصان على مدار السنين)، وورق الشجر والقش المقطع بالمنجل. كنت آكل الكثير من التوت البري الذي أقطفه من الآكام المنتشرة في ما كان ذات يوم مزرعة ممهدة مستوية، وبت أعرف كيف أتعامل مع الحيوانات ـ الصقور والثعالب بل والدب ـ التي يتناسب عددها مع حجم التوطن البشري في المكان. أما الغزلان والأرانب والخلدان فما كانت تبالي باستقامة خطوطي بل تقيم مآدبها عليها على أية حال، ثم إن بوسعها عند أي نهاية حقيقية للعالم أن تطعمنا أيضا.
ولكن للزمن تأثيره، واستزراع محصول كبير يدويا كان يأخذ من الوقت الكثير للغاية فلا يسمح بتنفيذ خطط زراعات أخرى كبيرة. فهذا الموسم، أو هذه المرحلة من مراحل القمر مخصصة لهذا المحصول، وهذا المناخ يعني أن الوقت فات لزراعة محصول أو لم يحن بعد له. والزراعة في القرن الحادي عشر كانت نشاطا يجري من قبل الشروق إلى بعد الغروب، تقريبا. ولكن نمط حياتي مهما تواضع كان يستوجب قضاء ساعات أكثر بكثير في الجلوس إلى المكتب (وليته المكتب المجاور للجدول) من الساعات التي أقضيها في حقولي. فكل ما كنت أحققه بالخارج، أي المزيد من المهام والأعباء ـ ناهيكم عن الخطط ـ كانت تبقى غير مكتملة.
ولكنني أبقى ثابتا. وحينما زارنا ابني في نوفمبر الماضي، اقتلعت ثمار بطاطس لنأكلها أنا وهو وأفراد آخرون من العائلة. كنت لم أزل هنا.
وخلال هذه المواسم التي يفلح فيها منهجي في العمل، يكون لملاحظة زائر عن مدى جاذبية الأرض أو مدى لطف المكان وقع تعبير عن الإعجاب بمقالة. لكنني غير غافل عن الحقيقة: هذه السنوات العجاف الماضية، هذا المكان الذي أحبه كثيرا ليس أكثر من مغارة في غابة هي ملاذ وخلاص.
غير أن الأفق واعد. ويبدو أن 2014 عام جيد بالنسبة لعملي المكتبي، قد يوفر لي الدعم اللازم للنهوض بمزرعتي. وفي ضوء الدروس التي تعلمتها من السنوات الماضية، فإنني على أتم الاستعداد لإعادة النظر في مخططاتي وتجديد الكفاح من أجل استرداد مزيد من الأرض التي احتلتها الأشواك والقصب والصنوبر.
إن اعتماد عصرنا الحديث على التكنولوجيا، لا سيما التكنولوجيا الكيميائية، قطع الصلة بين أغلبنا والأرض والبذور والمهارات الأساسية. وهذا الانفصال سيجعل التحدي كبيرا على الناجين من أي كارثة تقضي على العالم. وبغير التكنولوجيا الزراعية الحديثة، وأنظمة الإنتاج والتوزيع القائمة عليها، سوف يجتاح الجوع أغلب مدن العالم وبلدانه، ويتعملق شبح المجاعة. وقد نرى نهاية العالم الشاملة ضربت أغلب أهل الأرض بالجوع في غضون شهور إن لم يكن أسابيع. أما الناجون، أي المزارعون والبستانيون وبعض المستعدين لنهاية العالم، وربما أنا (وربما لا)، فقد يجدون أنفسهم قادرين على البقاء والاستمرار لسنين. لقد كان التخطيط في القلب من حياة المزارع في القرن الحادي عشر، بينما الارتجال ـ والارتجال اليائس ـ هو الذي سيكون في القلب من وجود مزارع ما بعد نهاية العالم.
وأجد أنني بت بارعا في كلا الأمرين. والغريب ـ وربما غير الغريب ـ أنني أجد نفسي مع تحسن الحياة ناظرا إلى المعدات والآلات نظرة أقل تلهفا.
ولكنني لا أرفع عيني عن منجلي الأوربي، العتيق، والبسيط، والضروري.

*يكتب كيث فيلر القصة والمقالة وألعاب الفيديو. عمل رئيسا لتحرير مجلة أومني وصدر أحدث كتبه بعنوان "فك شفرة التاريخ" بالاشتراك مع براد ميلتزر

*عن مجلة أيون