الخميس 28 أغسطس 2014 / 20:13

" الوكلاء "




في الأسبوع الثالث للحرب على غزة كتبت شيئاً يشبه "أنه كان علينا الاستفادة من دروس المواجهة مع عقلية القاتل التي تسيطر على القادة في إسرائيل، كأن نبحث عن السبل الممكنة لحماية أطفالنا من همجية العسكريين الإسرائيليين...، " وأشياء من هذا القبيل، من الكلام الذي يواصل تراكمه أمام الخسارات التي تبدو مجانية ويمكن تفاديها أو التقليل منها، الكلام الذي ينحى منحى المناشدة المؤلمة في طريقه لمتنفذين لا نعرفهم وأسماء لم نتهجاها ولقوى وفصائل لا نحب برامجها وأساليبها، ولكنها تقاتل الآن وتحقق إنجازات ستنقل الصراع مع العدو إلى مناطق جديدة، وتمتلك قرار الحرب.

كلما ظهرت تلك المشاهد المؤلمة للأطفال المقتولين والأجساد الصغيرة المدماة، أو صورة أب يرفع جثة طفلته الغضة الخفيفة عالياً في مواجهة كاميرا لا يتبين أصحابها وكأنه يرفع ذلك الجسد في عين العالم، أو تلك المرأة المشدوهة أمام ركام منزل وكأنها تنتظر أن تسمع تنفس أولادها من هناك، يصبح السؤال ضرورياً وجارحاً، لماذا لم تفكروا في ذلك حين كان لدينا الوقت والتجربة والإمكانية، بينما نحن، جميعاً، ننتظر ونصغي لهدير الحرب القادمة؟ كتبت تلك "المناشدات" على صفحتي في فيس بوك وتويتر بصيغ كثيرة ومعللة أحياناً، ولا تخلو من دهشة سوداء أمام الخفة التي يجري فيها النظر إلى حيوات هؤلاء الناس ومصائرهم، رغم أن السياسة الإسرائيلية الثابتة والتي لا يختلف حولها "فصيلان"، هي توجيه ضربات قاسية ودموية للبيئة الشعبية الحاضنة للمقاومة، وإحداث خسائر مؤلمة وتحطيم الأشياء الحياتية البسيطة، الماء والكهرباء والاتصالات والغذاء... لعزل هذه البيئة عن "المقاومة" وتحميل الأخيرة تبعات هذه الخسارات، غزة تحديداً تتعرض لهذه السياسة البربرية منذ النكبة على فترات، وفي الفترة الأخيرة بشكل دوري.

أظن أنني كتبت "بدل أن نواصل رفع أجساد أطفالنا أمام العالم لنوضح بشاعة العدو، كان علينا أن نفكر بملاجئ أكثر أمناً من الشوارع والبيوت الهشة وشاطئ البحر، أماكن تقلل من الخسائر قدر الإمكان"، كثيرون كتبوا أشياء تشبه هذا وكانوا أكثر دقة وتحديداً. فجأة ظهر "الوكلاء"، وبدا أن خطاً وهمياً تم تجاوزه، ما استدعى حضورهم بسكاكينهم وبلاغتهم "الوكلاء" الذين قرروا أن يتولوا حراسة أفكارنا منا "وكلاء" الممانعة و"وكلاء" الجماعة "خلايا اليسار" النائمة في ملفات "الإخوان المسلمين" وأولئك المخيمين على شريط التعليقات في "الجزيرة مباشر". مثقفون تائهون، بحكم المهنة، فقدوا عناوين بيوتهم ورفوف مكتباتهم في فوضى الحروب الأهلية التي نبعت مثل الفطر في المنطقة، المنطقة التي قفزت عن أسيجة التحليل وهبطت من كتبهم ومشت وحدها على غير هدى، دون استشارتهم. بدا أن مجرد التفكير بتلك الطريقة، كأن تطالب بالانتباه إلى قيمة الحياة، أو إبداء الدهشة من وجود جثة قائد، إشكالي، مثل أيمن طه ملقاة ومعروضة في ساحة مستشفى الشفاء، قبل استردادها وتدبيج بيان ركيك ومصطنع على نحو سخيف بشأن مقتله، أو التساؤل حول عمليات "إعدام العملاء" العلنية والمتواصلة، من قرر ومن حاكم ومن أدان ومن نفذ! في محاولة للتغطية على الاختراق الذي أدى إلى كارثة خسارة القادة الثلاث الذين استشهدوا في ضربة واحدة...، بدا ذلك التفكير والإعراب عنه نوعاً من الخيانة، أو على تخومها أو محاولة للتقليل من شأن "المقاومة" لصالح "الآخرين" الذين لا يتوقفون عن نسج المكائد والمؤامرات.

" الوكلاء" الذين يتحدثون نيابة عن القتلى والأحياء، نيابة عن البيوت والحقول والشجر، نيابة عن المستقبل والماضي وينطقون، دون أن يرف لهم جفن بـ "اسم الشعب"، ويفكرون نيابة عنه، غضبوا كثيراً من موضوع "ملاجئ الأطفال"، وحق الناس البسيط بمعرفة أسباب موتهم. كنت كتبت حولهم قبل هذه الحرب في غزة:

" ثمة خطٌّ رسمه أشخاصٌ، متحمسون غالباً، ومنفعلون لأسباب وطنية وأسباب أخرى لا علاقة لنا بها، لا علاقة للحرب أو غزة بها، أسباب شخصية تماماً قادمة من عثرات حياتهم وسوء التدبير وقلة الحظ. أشخاصٌ ورثوا حراسة هذا الخط، ونذروا أنفسهم لمراقبة أقدام الآخرين، التي قد تتجاوزه أو تفكّر بذلك، كأن تمسّه بقصد أو دون تبصّر، وتصنيف خطيئتهم وقياسها. الخط الذي يرونه ولا نراه، لأننا لا نعرف ولأنهم يعرفون، لأننا لا ندرك وهم يدركون، الخط الذي يتنقل بخفة حسب المرحلة وتأويل الحدث ومصالح المتبصّر الذي يعلم ما لا نعلم، ويفكّر عنا ويحلم من أجلنا، ويتلوّى مثل أفعى خفيفة تترك أثر زحفها على التراب، لا ليدل عليها ولكن ليشي بوجودها وأنها على مقربة في الجوار. الخط بمعجزاته الكثيرة وقداسته وامتيازات أصحابه التي تمنحهم حق نقله والتجول به ومده واختصاره وثنيه واقتراح لونه واتجاهه، فيما علينا أن نواصل الوثب في كل تجاه ودون رحمة في خضم هذه الحيوية التي يتمتع بها. الخط هو الذي يحكمنا جميعاً، لو استثنينا القائمين عليه ومرمميه وحراسه وورثته الذين وجدوه بديلاً عن الافتقار للموهبة وبذل الجهد والتراكم، حبل نجاة وحبل للتسلق وحبل لنشر الغسيل وللجر والقفز... ومثل دورية أمن مثيرة للريبة، يواصلون تجولهم في أحلام الناس وأفكارهم ومسالك مخيلتهم ينقّبون عن فكرة أو هاجس أو مفردة تشي بالرغبة في مغادرة الرتل الوهمي الذي رسموه أيضا ".

عندما نتخذ قراراً بالمواجهة الحقيقية علينا أن نضع حماية أهلنا ضمن مخططنا وعلى رأس أولوياته، إذا لم نفعل ذلك، إذا لم نفكر بذلك علينا أن نعيد النظر بكل شيء بقيمنا ومبادئنا وإنسانيتنا. إن استبدال كل هذه الإجراءات والأعباء والمسؤولية الوطنية والإنسانية بتوزيع صفة "شهيد" على الأطفال وأمهاتهم كمنحة أو هبة ربانية من "الفصيل"، وتقسيم المسؤولية بين قدرية الموت وهمجية العدو هو نوع من التعالي على الحياة نفسها، الحياة التي هي الهبة الربانية الأسمى. التفكير المتبصر بمصائر الناس وحمايتهم ضمن المتاح، سيعزز "المقاومة" وسيمنحها عمقاً أكثر، وقدرة على الصبر والصمود والمواجهة، وسيعزز قدرة الناس على احتضانها والسير معها في المواجهة بثقة، وتحويلها إلى رافعة حرية وليس إلى مكيدة أو أداة انتقام أو مشروع سياسي يحصي ثماره خارج الحقل.