الجمعة 29 أغسطس 2014 / 17:21

في "قواعد العشق الأربعون".. روايتان متوازيتان في عصرين طبعتهما ظاهرة التكفير وبغض الآخر

على الرغم من شهرة إليف شافاق، وخاصة روايتها "قواعد العشق الأربعون"، إلا أن الرواية تبدو غير مكتملة في الجزء المعاصر من الحدث السردي، ليس لأن زمن التكفير في منطقتنا على الأقل لايزال في حالة صعود الأسوأ فيه، مقارنة مع انتهاء الفترة الشبيهة بعصرنا هذا في القرن الثالث عشر الميلادي. فمما وصلنا عن ذلك الزمن الذي يتناسخ الآن، فإن تلك الحالة التصادمية بين فقهاء التكفير والحالة الصوفية، التي مثلها هناك جلال الدين الرومي، أتت بعد نضوج الحالة الحضارية الإسلامية، وبعد أن شاخت تلك الحضارة ظهرت كل أمراضها دفعة واحدة، لكن لم يتبقَّ لنا من ذلك العصر إلا "عرفان" الرومي الذي شكل الحالة الروحية للإيمان بالإسلام، دون الاعتداد المبالغ فيه بالحالات الطقوسية المتبدلة نسبياً بين الملل والنحل والمذاهب والقوميات.

فوق ذلك، لا تبدو مقولة الرواية ناضجة "فنياً" بالشكل الكافي الذي برر القول إن الرواية "عن جلال الدين الرومي"، ولو قيل إن الرواية تسرد سيرة شمس التبريزي، أو تروي خلفيات عصر التبريزي والرومي، لكان ذلك أدق عبارة.

تسرد الرواية الصادرة عن دار طوى 2014 - ترجمة خالد الجبيلي، 512 صفحة من القطع المتوسط، تفاصيل متخيلة على خلفية تاريخية تتوزع مفرداتها بين نهاية عصر فرقة الحشاشين، وانتشار الفقر، والأفكار الطبقية التي حاربها الإسلام في بداياته الأولى، واجتهادات الفقهاء التي استندت إلى الطقوس وحرفية النص القرآني، وظاهر منطوق السنة النبوية، في مواجهة الفهم الصوفي للإسلام الذي يميز، حسب شمس التبريزي، بين أربعة مستويات لفهم القرآن وفق درجة علم وذكاء واجتهاد القارئ، وبالتالي درجة إيمانه.

الرواية تربط واقع بدايات القرن الواحد والعشرين بروايات عن القرن الثالث عشر الميلادي، وبطلي ذلك العصر، الرومي والتبريزي.

كان القرن الثالث عشر فترة اضطرابات عسكرية على خلفية دينية في منطقة الأناضول. ففي الغرب، احتل الصليبيون القسطنطينية وعاثوا فيها فساداً في طريقهم لاحتلال القدس، وفي الشرق انتشرت جيوش المغول بقيادة جنكيزخان. وفي الوسط كانت القبائل التركية تتحارب. كان المسيحيون يحاربون المسيحيين، والمسيحيون يقاتلون المسلمين، والمسلمون يقاتلون المسلمين. في هذا الجو عاش عالم مسلم جليل يُدعى جلال الدين الرومي، كاستمرار لوالده العالم أيضاً، الذي ورث عنه الثروة والجاه واحترام العامة والخاصة. وعندما التقى الرومي الشاب بالصوفي فريد الدين العطار، قال عنه الأخير: "إن هذا الفتي سيفتح باباً في قلب العشق ويضرم النار في جميع قلوب العشاق الصوفيين.. وعندما رأى ابن عربي الرومي الشاب وهو يسير وراء أبيه ذات يوم، قال: سبحان الله، محيط يمشي وراء بحيرة" ص106.

في الجانب المعاصر، إيلا روبنشتاين خريجة أدب إنكليزي، وربة أسرة يهودية، وأم لبنت شابة في سنتها الجامعية الأولى، وولد وبنت توأمين، فقدت الجانب الرومانسي من حياتها، حتى أنها تعلم بخيانات زوجها لها ولا تعبأ بذلك، بل حتى لا تواجهه بما اقترف. تعيش الأسرة في نورثامبتون في ولاية ماساشوستس في الولايات المتحدة الأميركية، التي تبدأ فيها الحركة الأولى في الرواية في 17 أيار (مايو) 2008 على مائدة الغداء في يوم سبت.

وفي الماضي البعيد، تبدأ الرواية في الإسكندرية في تشرين الثاني (نوفمبر) 1252م، حيث يهرب "رأس الواوي"، العضو السابق في فرقة الحشاشين، من كابوس لايزال يطارده بعد قتله لشمس التبريزي بعد أن تكاثر أعداء شمس في قونية على قدر ازدياد حب الرومي له.
رأس الواوي كان يعمل كمساعد لقوادة في ماخور في قونية، بوظيفة فزاعة للمومسات وللزبائن الذين يشذون عن السلوك في الماخور، يغريه شخصان بالمال مقابل قتل التبريزي، وعندما يعلم أنه شخص صوفي متدين يخاف ويحاول الاعتذار، لكن إغراء المال يجعله يوافق.

رواية داخل الرواية
تبدو تقنية الرواية هنا خطفاً إلى الخلف، لكن الحدث يتردد صعوداً وهبوطاً وخلخلة في الزمن، فأول مهمة لإيلا في عملها الأول في وكالة أدبية، بعد سنين من التفرغ للأسرة، هي تكليفها بكتابة تقرير عن مخطوطة رواية عن الصوفي جلال الدين الرومي، لكاتب يقدم روايته الأولى باسم (أ.ز.زاهارا). وعلى الرغم من أن الاسم يوحي بشرقية الكاتب، فإن الرواية توضح لاحقاً أنه اسكتلندي متخصص في إدارة الأعمال، إلا أن وفاة زوجته الهولندية في حادث سير مأساوي تقلب حياته رأساً على عقب، وبعد سنين من البوهيمية عاشها في حالة تشرد بين المخدرات والخمر، فقد خلالها عمله، وأصبحت حياته الجديدة لا تمت بصلة إلى ما عاشه خلال زواجه واستقراره في هولندا، يتعلم زاهارا التصوير، فيسوح بين البلدان في مهمات تصوير، وتقوده المصادفة إلى معايشة صوفيين في المغرب، وهنا تبدأ حياته في مرحلتها الثالثة.

وعلى وجه التقريب، تتناوب الفصول بين الحاضر والماضي، في تقاطع مع علاقة تنشأ بين إيلا وزاهارا من خلال إيميلات متبادلة تتطور إلى تقارب ونقاشات ما تلبث أن تتحول إلى حب افتراضي، ومن ثم يلتقيان وينتقلان للعيش معاً في قونية، رغم أن زاهارا لا يعد إيلا بأي مستقبل كونه مصاباً بنوع من سرطان الجلد الخبيث الذي لم يمهله طويلاً.

التبريزي والرومي
لقاء التبريزي والرومي يأخذ مقدمة طويلة، فبعد أسفار طويلة قضاها التبريزي أدرك أن علمه يحتاج كي يكتمل، ويُشرق في الأرض وبين الناس، إلى رفيق يكمل معه حياته، وجاءته الرؤيا بأن رفيقه موجود في بغداد، بينما كان الرومي نفسه ينتظر أن يجد رفيقه، وساعده أستاذه ورفيق والده في إيجاد التبريزي في بغداد. وبعد وصول التبريزي إلى قونية للقاء رفيقه ينتظر أياماً وهو يخالط السكيرين والمومسات والشحاذين، وكل أنواع البشر المنبوذين في مجتمعهم، وعندما يلتقي بالرومي المبجل وهو خارج من الجامع على حصانه يستوقفه ليسأله سؤالاً، وعندما يسمح له الرومي يطلب منه أن يترجل عن حصانه ليكونا على سوية واحدة، وهذه جرأة وخروج على المألوف، نظراً لما يتمتع به الرومي من مكانة اجتماعية. سأل التبريزي الرومي من هو الأعظم في رأيك: النبي محمد، أم الصوفي أبو يزيد البسطامي؟ فيرد الرومي "ما هذا السؤال كيف يمكنك أن تقارن بين نبينا العظيم عليه الصلاة والسلام، خاتم الأنبياء والمرسلين، وبين صوفي سيء السمعة... فقال التبريزي: أفلم يقل النبي يا رب اغفر لي عجزي عن معرفتك حق المعرفة. في حين قال البسطامي: طوبى لي، فأنا أحمل الله داخل عباءتي.. هنا، فكر الرومي وأجاب التبريزي: كما ترى، فإن حب الله محيط لا نهاية له، ويحاول البشر أن ينهلوا منه أكبر قدر من الماء. لكن في نهاية المطاف، يعتمد مقدار الماء الذي يحصل عليه كل منا على حجم الكوب الذي يستخدمه. ففي حين يوجد لدى البعض براميل، ولدى البعض دلاء، فإن لدى البعض الآخر طاسات فقط..." ص232.

بعدها يعتزل الرومي والتبريزي الناس في بيت الأول ليلقن التبريزي رفيقه قواعد العشق الأربعين التي توصل إليها من خلال أسفاره وتأملاته.

وإليف شافاق أرادت من روايتها القول إن الحب بين البشر، وبين البشر وخالقهم، يحكمها القلب قبل العقل، فربطت بين قواعد التبريزي الأربعين التي أودت بحياته نتيجة تكاثر كارهيه من سلطات ذلك العصر الاجتماعية والسياسية غير الرسمية، وبين حياة إيلا، كحالة خاصة. إيلا اتبعت قلبها وهجرت أسرتها بحثاً عن حب بلا مستقبل، في محاولة لتعميم قاعدة "اتبع قلبك"، لكن ذلك افتقد، في رأيي، للإقناع، بدليل أنها اختارت حباً مستحيلاً ويائساً، وبلا مستقبل، ولو أن خيار إيلا ذهب إلى التصوف الذي أراده التبريزي بحيث أنه لم يقرب زوجته في بيت الرومي إخلاصاً لتصوفه وعزوفه عن متع الدنيا، لكان ذلك أقرب إلى المنطق. إيلا لم تنل من زاهارا الحب "الدنيوي"، وزوجة التبريزي لم تنل ذلك من زوجها.

هذا، بينما للرومي زوجة أولى متوفاة، وأولاد منها، وزوجة ثانية، ولم تلمح الرواية أن الرومي بعد لقائه بالتبريزي هجر فراش زوجته.
شافاق حاولت ربط حالة عشق زوجة التبريزي لزوجها، وحالة عشق إيلا لزاهارا، فبدا أن الحالتين متوازيتان، لكنهما تتقاطعان مع حالة الرومي الذي ولج حياة المرأة، واستمتع بحالة الأبوة، رغم تصوفه.
هذا ما أرادته شافاق، لكن تقنية السرد التي اختارتها أربكت الحدث والاستنتاجات، فأرادت أن تقول إن العشق الدنيوي الطبيعي بين الرجل والمرأة هو الحالة المتوافقة مع الطبيعة المادية لهذا العشق، على خلاف الحالة الروحية للمتصوف الذي يعشق خالقه ويحاول أن يُلبس هذا العشق حالات من الإشراق ذهبت بالسلطات الدينية إلى تكفيرهم في أزمنة وأمكنة عديدة، وفي أديان عديدة كذلك.