السبت 30 أغسطس 2014 / 17:42

خطورة أن تموت السياسة في مصر



ماذا يجري لو ماتت السياسة في مصر؟ ... هذا هو سؤال اللحظة مع ما تردد عن وجود اقتراحات بتعديل الدستور لتوسيع صلاحيات الرئيس، والحديث عن تأجيل انتخابات البرلمان، ومطالبة البعض بتعيين المجالس المحلية، وتهميش الأحزاب، وعدم الثقة في الطبقة السياسية برمتها، والاعتقاد بأن الأمن والتنمية يغنيان عن الديمقراطية، إما لأن "الشعب لم ينضج بعد" تكراراً لسخف كان يقال من قبل، وإما لأن الحريات العامة والتعددية والفصل بين السلطات والمحاسبة والشفافية وتداول السلطة، هي قضية نخبة ضيقة، أما التيار العريض من الناس فلا يريد سوى أن يمشي في الشارع آمنا وبطنه ملآن.

في عهد مبارك ماتت السياسة فدفع هو الثمن، كيف؟ لنصبر قليلاً: الرجل همش الأحزاب وهشمها، وأطلق الأمن يعبث بمن أراد فيها أن يقيم ظهره ويقوم بوظيفته الرئيسية وهو "السعي للوصول إلى السلطة" لتبقى مجرد "ديكور أجوف" لنظامه المهترئ، وأبعد الحركة الطلابية عن الانشغال بالهم العام، وحاصر النقابات والمجتمع المدني، فالنتيجة كانت غياب البديل المدني لحكمه، وتوسيع الطريق أمام جماعة الإخوان التي تمارس الإرهاب الآن. وحين قامت ثورة يناير كان الشباب يهتفون في الميدان: "لا إخوان ولا أحزاب .. ثورتنا ثورة شباب"، ولم تجد السلطة من تتفاوض معه، وكل من جلست معه لم يكن يمثل الثورة، وما توصل إليه لم يقبله أحد، فاضطر نظام مبارك إلى مجالسة الإخوان، الذين طالما أبرم معهم صفقات أمنية على مدار ثلاثين سنة، ومن جراء هذا انفتح أمامهم الباب لسرقة الثورة وحيازة السلطة إلى أن أسقطهم الشعب والجيش عنها. كما أن موت السياسة في زمن مبارك جعل مصر تعاني من نقص "رجال الدولة" والكوادر السياسة البارعة، وها نحن ندفع ثمن هذا الآن.

الثورة أعادت السياسة إلى الشارع، فانفتحت شهية الناس إلى المشاركة والانخراط في الحياة العامة، وتعمقت الثقافة السياسية، وازدادت رقعة المؤمنين بتلازم الحرية مع التنمية، وشعر المواطن بالثقة في نفسه وآمن بقدرته على التغيير، وعاش تجارب متتابعة من انتخابات مختلفة لا وجه للمقارنة بينها وبين ما كان يجري قبل الثورة، وسارع كثيرون إلى بناء المؤسسات الوسيطة من روابط واتحادات ونقابات، ونشأت أحزاب جديدة، وتيقن كثيرون داخل الأحزاب القديمة من أن إصلاحها بات ضرورة، وظهر جيل جديد من السياسيين يحتاج إلى مزيد من الخبرة والحنكة وقبلهما الفرصة ليفرز للبلاد رجال دولة من طراز جيد. وكل هذا يراد أن له أن يخبو الآن، وكأن شيئاً لم يكن.

إن إحياء السياسة ضرورة لأي أمة تريد أن تتقدم إلى الأمام، أما اعتبارها مجرد رطانة وفعل أخرق وتضييع للوقت، فهو خبل، وأما احتقار رجالها جميعا وفقدان الثقة فيهم واتخاد كل التدابير لتهميشهم وتجنيبهم، فهو خلل، وأما الاعتقاد بأن الحاكم يمد حنجرته فيصل إلى القاصي والداني ولا حاجة له إلى قوى منظمة تمارس السياسة بشكل عصري، فهو زلل، وأما الحديث عن أن الناس قد كرهت السياسة ولا حاجة لهم بها، فهو خطل. فإذا كانت التجربة بها خروق فلنرتقها، ونصبر عليها، لا أن ننزع عنها الثوب ونتركها عارية تماما.

موت السياسة هو الطريق الأمثل لتهشيم الدولة وإضعاف شوكتها، وعودة الحاكم إلى عزلته المخميلة، بعد بناء جدار سميك عازل بينه وبين الطبقة العريضة من الناس، وفتح أبواب ونوافذ لصراعات وانقسامات لا حصر لها، وإعطاء فرصة ثمينة لمن يستهدفون الدولة والمجتمع كي يلعبوا على الشقاق والخلاف وينفخوا في مستصغر الشرر، وإعطاء فرصة للناهبين والسارقين كي يعيثوا في البلد فسادا.

إنها كارثة حقا أن يفكر البعض أو يخطط لموت السياسة في مصر .. كارثة ستقع أولاً على رأس من يدبر لهذا، وتلك هي حكمة التاريخ، وأسألوا مبارك.