الأحد 31 أغسطس 2014 / 17:30

نجيب محفوظ، هل سامحتني؟!



مثل الأمس، ٣٠ أغسطس، قبل ثمان سنوات تغيّر فيهن وجهُ مصرَ ووجه العالم، طار إلى حيث تطير العصافيرُ التي لا تموت. لا يموت كاتبٌ ولا شاعرٌ ولا مفكّرٌ ولا عالمٌ. أولئك عصيّون على الفناء عابرون للحِقَب والأزمنة والتواريخ. لأن قصيدة هذا وفكرة ذاك، فلسفة هذا، ونظرية ذاك، تظلُّ تُحوّم في فضاء الدنيا بأجنحة لا تبلى ولا تعبأ بتعاقب العقود والقرون. لكل هذا، ازداد "نجيب محفوظ" حضورًا ووجودًا منذ طيرانه.

أحببتُ قلم نجيب محفوظ، لكنه لم يفتنني قدر فتنتي بأقلام "يوسف إدريس" و "تشيكوف" و"فرجينيا وولف" و"إبراهيم أصلان" مثلا، إنما افتتاني الكامل كان به كنموذج إبداعي جادّ عزّ نظيره، كما فتنتني رواياتٌ بعينها مثل "الشحاذ"، "ثرثرة فوق النيل"، و"الطريق".

ثلاثون عامًا تفصل بين أول وآخر لقاء بيني وبين نجيب محفوظ. الأخيرُ كان في الربيع السابق لطيرانه مباشرة (٢٠٠٦) بفندق "شبرد" الذي يُطلُّ على نيل مصر العظيم. حيث قاعةٌ ضوءُها الخافتُ رفيقٌ بشبكية رجل جاوز التسعين، بينما فرادةُ عقله وقوةُ إبداعه قد أثبتتا أنهما تحييان خارج الزمن، بتعبير عبد الصبور.

تحدث بمرحه المعهود مع كل مريديه وحوارييه، ما أغراني بالركوض على سلم البهو نزولا ثم الخروج من شبرد، وولوج فندق سميراميس المواجه، ومن ثم ارتقاء الدرج حتى الطابق الأول حيث المكتبة التي تضم معظم أعمال الكاتب الكبير. لم أتحيّر كثيراً أمام الخيارات، لأنني أعلم أن أصابعي رأساً سوف تقع على "الطريق". الرواية الأقرب إلى قلبي. حيث البحث عن حُلم. فالبحث في ذاته هدفٌ وليس الوصول إلى الضالة هو الهدف. كلنا ينتظرُ شيئًا ما، إن تحقق، انتفى سببُ وجودنا. عدتُ ركضًا وكان الأستاذُ ينتظرني بقلمه كي يوقّع باسمه على الكتاب: نجيب محفوظ، ٢ أبريل ٢٠٠٦، طبعًا لم ينس أن يكتب تاريخ اليوم، ولو استغرقتْه كتابةُ التاريخ خمسَ دقائق أخرى مضافة إلى الخمس الأولى التي كتب فيها اسمه بخط مرتعش، بسبب الطعنة الجهول التي نالها عنقُه في التسعينيات من أميّ جاهل لم يقرأ له حرفًا، لكنهم (قالوا له) إن الأستاذ العظيم “كافر”، وهم الكافرون لو كانوا يعلمون!

دسستُ كتابي، الذي غدا ثروةً قيّمة، في حقيبتي، ثم أخذني الصمتُ الطويل. أستمع له وأستمتعُ بخفة ظلّه وقفشاته السياسية وإلماحاته الذكية التي تشير إلى نصاعة وعي لم يستطع أن ينال منه تراكمُ العقود وغزارة العمل.

أما لقائي الأول به فكان في كازينو "قصر النيل". النيل أيضًا؟ ترى ما الرابط بين النيل ومحفوظ؟ كان عمري وقتها تسع سنوات.

طفلة في التاسعة يلزمها بعض الطول فـ "تشبُّ" على أطراف أصابعها لكي تراه بين حرافيشه وتتأمل تلك "الحَسَنَة" الكبيرة جوار أنفه. يسمونها "زبيبة". أمي تشير إلى طاولته من بعيد وتقول لي ولشقيقي: "ده نجيب محفوظ، كاتب كبير.” وأنا أحاول أن أربط بين الحسنة الكبيرة وبين الكاتب الكبير. أدفسُ وجهي في كأس الكاساتا بالفراولة والفانيليا المثلجة، وأشبُّ بين الحين والآخر على قدمي كي أحدّق في الكاتب الكبير. هل يختبئ الإبداعُ الكبيرُ داخل تلك الزبيبة الكبيرة؟ حين أعود إلى البيت، أفحصُ وجهي في مرآة غرفتي فلا أجد زبيبة. كبيرة أم صغيرة. يعني لن أكون كاتبة كبيرة أبدًا!

حول لقائي به طفلةً، ولقاء آخر به في شبابي، بفيلا د. "يحيى الرخاوي" بالمقطم، كانت قصيدتي الوحيدة التي كتبتها في نجيب محفوظ بعنوان: "الطريق" وأهديتها إلى نجيب محفوظ:
"لن أصفحَ /
برغم أصابعِكَ التي تجمّدتْ على قبضةِ القلمْ/
عند سفح المقطم./
لأن تعثري/
في سنواتي التسعِ/
بين مقاعدِ مقهًى مقصوصٍ من العاصمة/
وبين أميالِك التسعة/
من النهرِ إلى البحر/
أفلتَ التاجَ من الوجوديين/
ليستقرَّ في يدِ صبيتيْنِ/
تحملانِ لقبَ العائلة.

تعلمتُ أن أكرهَك/
برغم "سيد سيد الرحيمي"/
حسنتِك الوحيدة/
التي زملّتني بدثارِ الولدِ الباحثِ عن هُويّة/
وبرغم أبي/
"سيد حسن ناعوت"/
الذي أطلقتَ إسارَه في منتصفِ المسافةِ/
ليمسحَ جدائلي برهةً/
فيما يحكي عن أنثى العقربِ/
وصندوقِ الحذاءِ المسحور/
ثم يمضي/
قبلَ أن يكتبَ تعويذتي/
وقبل أن يسمعَ/
نقرتي الوحيدة.

الكلابُ كثيرون/
لكنَّك لا تراهم/
لأنك ابتلعتَ نصفَ التاريخِ/
فتكورَّتْ " أمينةُ "/
على سُلَّم البنايةِ الخشبيّ.

ماتتْ/
وتوزّعتْ هزائمُها علينا/
وأعضاؤها/
على أهلِ الهوى/
والشُّطار.

لاشيءَ يغريني اليومَ/
أنْ أدّخرَ قروشيَ/
من أجلِ رحلةِ نهايةِ الأسبوع/
إلى سورِ الأزبكية/
لا شيءَ شريفًا فوقَ الأرففِ
/سوى الغبار.

اِبحثْ عن خُدعةٍ أخرى/
لأن الجلالَ /
مشارفةَ النهايات/
وانفصالَ الشبكيةِ/
وحتى عصا الأبنوسِ الحزينةَ/
لن تجعلَني أحبُكَ/
على الأقلِ الآن.

لا شيءَ ينجيكَ من غضبتي/
سوى تحريرِهن/
من ثنائيةِ الوَيْل،/
أو/
سأكمنُ في عزلتي/
حتى أصادفَ قيثارتَها/
قيثارة جدتي الجميلةَ/
التي وأدتها بين سطورِك."

حين قرأوا عليه قصيدتي هذه منشورة في جريدة "القاهرة"، ابتسم وقال: "هذا شعرٌ طيب!”

في لقائي الأخير به كنت أشعر بالقلق من أن يسألني لماذا كتبتُ قصيدتي تلك! وظللتُ أرتب الكلام في رأسي حول زبيدة وأمينة وكيف لم ألمح الفروق بينهما. فليس لدينا دليلٌ على أن الثانية فاضلة بالفعل وبإرادتها. إذ أن الأولى تمتلك إرادتها: "زبيدة"، والثانية مأسورة بإرادة سواها: “أمينة”. وفي هذا ظلم للمرأة، كأنها لا تكون فاضلة إلا حين يأسرها رجلٌ! فأين نموذج المرأة الفاضلة بإرادتها وحريتها الكاملة مثل جدتي وغيرها من نساء ذلك الجيل؟! لكنه كان كريمًا ودودًا معي، ولم يعاتبني.

قبّلتُه وسأقبلّه بكل حب الكون كلما مرّ بخاطري. قبلةَ من يشعر بذنب لا ينتوي التوبة منه. كأنني أعتذر له عن موقفي من موقفه من المرأة. موقفي الذي لم يتغير إلى الآن وحتى إشعار آخر.

يا نجيب محفوظ، عِشْ ألفَ عام! وسوف تعيشُ ألفَ عام.