الخميس 18 سبتمبر 2014 / 22:40

التمييز الإيجابى للوحوش الصغيرة!

بعد محاكمة سريعة لم تستغرق سوى ثلاثة أشهر، أصدرت إحدى محاكم الجنايات المصرية حكماً بإعدام مراهق لم يتعد الثمانية عشر عاماً إلا بشهور قليلة، لأنه استدرج طفلة في الرابعة من عمرها وقام باغتصابها ثم قتلها، وهو ما جدد أحزان أسرة طفلة أخرى في الخامسة من عمرها اغتصبها مراهق آخر وقتلها، وفضلاً عن أن إجراءات المحاكمة استغرقت ما يزيد على العام، فقد عاقبته المحكمة بالسجن خمسة عشر عاماً، وأمرت بإيداعه في إحدى دور الرعاية الاجتماعية للأحداث، وليس في أحد السجون العمومية لأنه لم يكن حين ارتكب الجريمة قد وصل إلى سن الثامنة عشرة، وهو ما اعتبرته أسرة الضحية تحريضاً قانونياً على ارتكاب جرائم القتل والاغتصاب، وعلقت فأسه في رقبة المجلس القومي لرعاية الطفولة والأمومة، الذى سعى منذ سنوات لاستصدار قانون الطفل، وضمنه مادة تقضى باعتبار كل من لم يبلغ سن الثامنة عشرة ميلادية طفلاً، لا يجوز الحكم عليه بالإعدام، ولا إيداعه السجون العمومية في حالة إدانته والحكم عليه بعقوبة سالبة للحرية حتى لا يتعلم الجريمة من المسجونين الأكبر سناً، بل يودع في دور خاصة لرعاية الأحداث، تتوفر له فيها وسائل العلاج النفسي والاجتماعي، بينما قالت المحكمة التي أصدرت حكم الإعدام، إنها طبقت القانون لأن الجاني حين ارتكب جريمته كان قد تجاوز الثامنة عشرة بأيام وإنها لم تجد في أوراق الدعوى ما يدعوها لتخفيف عقوبة الإعدام، أو للأخذ بمنطق دفاعه بأنه لا يزال حديث عهد بالطفولة.

أعادتني المقارنة بين الحكمين إلى فترة مبكرة من عمرى، عملت خلالها أخصائياً اجتماعياً يدخل ضمن اهتماماتي وأحياناً عملي، الجرائم التي يرتكبها الأحداث الجانحون، تحمست خلالها للقوانين التي تأخذ بقاعدة التمييز الإيجابي بينهم وبين المجرمين الراشدين، بحيث يحاكمون أمام محاكم خاصة، ويكون للتقارير التي يعدها المتخصصون الاجتماعيون والنفسيون عن ظروفهم الاجتماعية والنفسية، تقديرها في الحكم الذى تصدره المحكمة ضدهم والذى قد يؤدى إلى تسليمهم إلى أسرهم، إذا كانت ظروفها تسمح بتوفير رعاية ملائمة لهم، وأن يمضوا فترة الحبس الاحتياطي في دور للضيافة الاجتماعية، وفترة العقوبة في دور للرعاية بعيداً عن السجون التي يودع بها المجرمون المحترفون الذين قد يقودونهم إلى طريق الجريمة الذي لا عودة منه، ووصل هذا الحماس لدي ولدى غيرى - إلى حد المطالبة برفع سن "الحدث" إلى الحادية والعشرين باعتبارها سن الرشد المعترف به قانوناً، ولو أن ذلك قد حدث لما استطاعت المحكمة أن تحكم بالإعدام على "الطفل" الذى ارتكب جريمتي الاغتصاب والقتل بعد بلوغه الثامنة عشرة بأسابيع، ولعاقبته بالسجن لفترة يقضيها في إحدى دور الرعاية لأنه لم يبلغ الحادية والعشرين.

وكان من بين أسباب حماسي لهذا التمييز الإيجابي أنني كنت متأثراً بمدرسة كانت حديثة آنذاك في علم النفس، هي مدرسة الدوافع النفسية قامت على أنقاض مدرسة الغرائز التي كانت تنطلق من تصور أن الإنسان يولد ولديه غرائز ورثها عن اسلافه، هي التي تتحكم في سلوكه ومن بينها غرائز قد تدفعه لارتكاب الجرائم كالقتل أو السرقة أو الاغتصاب، في حين كان الذين يفسرون سلوك الإنسان بالدوافع النفسية من علماء النفس يذهبون إلى أنه ابن بيئته، وأن ما يحرك سلوكه هو دوافع نفسية مكتسبة وليست موروثة، تتخلق عبر البيئة التي تحيط به ومن ظروفه الاجتماعية الخاصة وظروف المجتمع المحيط به. فهو ضحية هذه البيئة ويمكن أن يتغير بتغييرها وبالتالي فلا يجوز أن نعامل الأحداث الجانحين - وهو مصطلح أحلته هذه المدرسة محل مصطلح الأحداث المنحرفين الذى كان شائعاً قبله - معاملة المجرمين، بل ينبغي أن نتعامل معهم باعتبارهم ضحايا للبيئة التي نشؤوا فيها وانطلاقاً من أن تغيير هذه البيئة أو إصلاحها كفيل بإعادتهم إلى الطريق السوي، وبعدولهم عن هذا الجنوح الذى يدفعهم لارتكاب الجرائم.

ولم اكن وحدى الذى تأثر - آنذاك- بمدرسة الدوافع النفسية إذ كان التأثر بها شائعاً في جيلنا بين من يدرسون علوم النفس والاجتماع وما يتصل بها، في مناخ فكرى كان صاعداً آنذاك يسعى لتأسيس مدرسة اجتماعية للعلوم الإنسانية بشكل عام.. وكان زميلنا "كمال عطية" - خلال سنوات الدراسة- أكثرنا تأثراً بهذه المدرسة وأكثرنا قراءة في الكتب التي تتناولها وكان من حسن حظه أنه وجد الطريق ممهداً فور تخرجه لكى يعمل في واحدة من أحدث وأكبر مؤسسات رعاية الأحداث الجانحين تأسست في ذلك الحين في المرج .. إحدى ضواحي القاهرة- علي مساحة واسعة من الأرض، وضمت مئات من الذين صدر ضدهم أحكام بالسجن من هؤلاء أو أودعوا فيها بقرارات إدارية لأنهم ممن يوصفون اليوم بـ"أطفال الشوارع" وهى مصادفة سعيدة دفعتنا لإقامة احتفال خاص ابتهاجاً بالحظ السعيد الذى صادفه لكى يجد وظيفة تتناسب مع اهتماماته وتؤهله لكى يطبق نظرية الدوافع النفسية على الأحداث الجانحين، وهو حظ لم يصادف معظمنا إذ جري توزيعنا على أعمال لم تكن وثيقة الصلة بما درسناه أو تحمسنا له.

وذات يوم بعد عدة شهور عنّ لنا نحن زملاء "كمال" في الدراسة أن نزوره في المؤسسة التي يعمل بها، لكى نعزي أنفسنا عما نعانيه من بلاء في الأعمال الإدارية السخيفة التي ألحقنا بها بمتابعة ما حققه من سعادة حين التحق بالعمل الذى يشغف به، وما أنجزه من أفكاره، وكان ذهولنا بالغاً، حين رأيناه يرتدى بيجامته ويجلس وراء مكتبه وإلى جواره مجموعة عيدان من جريد النخل و"فلكة" من النوع الذى يستخدم في تهيئة الأقدام، لكى تنزل عليها العصى في حالة توقيع عقوبة على صاحبها، وبين الحين والآخر يدخل عليه أحد معاونيه وهو يجر واحداً أو أكثر من الأحداث الذين يقيمون في دار الرعاية ليقدم له تقريراً شفوياً بما ارتكبه أو ارتكبوه من مخالفات تشمل الاعتداء على زملائهم أو التحرش الجنسي بهم، أو إحداث جروح وكدمات في أجسادهم أو محاولة الهروب بالقفز من فوق السور الخارجي لها ......إلخ، وكان كمال يستمع إلى التقرير صامتاً ثم ينفجر موجهاً أبشع الألفاظ والشتائم إلى المتهمين قبل أن يأمر معاونيه بلف الفلكة حول معصمي القدمين، ورفعهما إلى أعلى قبل أن ينهال عليهما بضربات عنيفة ومتوالية، وهو يواصل شتائمه ليعود بعدها ليواصل الحديث معنا لينقطع بعد قليل، بسبب دخول متهم آخر، ولم نكن في حاجة إلى سؤال "كمال" عن حجم السعادة التي يشعر بها في العمل بالمكان الذى كان يحلم به طوال عمره، ولا عن النتيجة التي أسفر عنها تطبيقه لنظرية الدوافع النفسية، ولم يشر هو إلى شيء من ذلك، لكنى ألقيت نظرة على رف الكتب المجاور لمكتبه فإذا بها جميعاً عن نظرية الغرائز النفسية، وإلى جوارها مجموعة من العصى التي يستخدمها في تطبيقها.

وبإشارة خفية إلى الوفد الذى صاحبني في زيارة رائد نظرية الدوافع النفسية، التفت عيوننا عند عناوين الكتب ثم إلى مجموعة العصى، واندفعنا نضحك بجنون، و"كمال" ينظر إلينا بذهول.