رشحت رواية خالد خليفة لجائزة البوكر لهذا العام
رشحت رواية خالد خليفة لجائزة البوكر لهذا العام
الخميس 25 سبتمبر 2014 / 21:13

"لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة".. بئر الذاكرة الحلبية

24- علي العائد

لا يتفوق خالد خليفة في روايته "لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة" سوى على نفسه، كروائي، وسيناريست، فبالمقارنة مع روايته "مديح الكراهية" التي يطيل فيها المونولوغ على حساب تماسك السرد، وتسلسل الحكاية، يعود هنا إلى شغفه كسيناريست ليقدم رواية مثيرة في تقنيتها البسيطة من حيث التحكم بعنصر الزمن، فيتلاعب به بما يناسب تخلخل الزمن السوري، الذي يمسك بتلابيب ذاكرة السوريين، عائداً بهم إلى زمن الخمسينيات، كلما أظلم في وجههم واقع الحياة السورية، سياسياً وأخلاقياً، وخاصةً منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي، وحتى أ

يريد خالد خليفة التشعب في التاريخ الحلبي متعدد الروائح فاختار أن يثبت أسوأ روائح العهد البعثي المديد

يموت الجد المتقاعد تحت عجلات قطار بضائع بطيء، تتزوج الابنة المعلمة رجلاً ريفياً مخالفةً إرادة الأسرة، الزوج الريفي يهجر زوجته مع عالمة آثار أمريكية تكبره بثلاثين سنة، البنات يتخبطن في حريتهن، فسوسن تشارك في دورة إنزال مظلي في الثمانينيات، ومن ثم تذهب بحالة عشق توازي الإنزال المظلي سقوطاً مع مرافق قائد الدورة، المرافق يتحول إلى تابع لرجل مال في دبي، وحين يتزوج يهجر سوسن، العائلة تتسامح مع الميول المثلية لابنها، أو هكذا بدا الأمر خلال السرد، الابن المثلي موسيقي بارع ووجه من وجوه المجتمع المخملي في حلب، وأخوه الآخر موسيقي بارع يفقد يقينه بمستقبله فيبحث عن آخرته في العمل المسلح تحت راية الجهاد في العراق، لكنه يعود بالندم بعد تجربة مثيرة ومختزلة كان بإمكان خالد خليفة تركيب حكاية كاملة عنها لو أراد، أو إلحاقها ربما بمسلسله الناجح "هدوء نسبي".

تلك بعض من أحداث الرواية الصادرة عن الآداب 2013 للروائي السوري خالد خليفة التي رشحته للمرة الثانية للقائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية في دورتها هذا العام، بعد المرة الأولى التي رشح فيها للقائمة القصيرة للجائزة نفسها في دورتها الأولى عن روايته "مديح الكراهية" عام 2008.

هجرة الريف

تبدأ الرواية من فصل بعنوان "حقول الخس"، التي يعرفها كل من زار حلب قبل أواسط ثمانينيات القرن الماضي، وقبل أن تزحف البنايات المستنسخة عن بعضها لتبنى في مكان حقول الخس، كسكن للريفيين المهاجرين الذي أعادوا استنساخ حياتهم الأولى الأفقية بالسكن في بناء عمودي تغطي شرفاته ستائر بشعة تحجب الرؤية عن هواة التلصص على البيوت.

تقول الأم التي لم تستوعب أن الدكتاتور مات "دم الضحايا لا يسمح للطاغية بالموت" ص9، في إشارة إلى موت حافظ الأسد في 10 حزيران عام 2000.

من هذا الحدث تبدأ الرواية بتقدم الزمن، وصولاً إلى ما بعد احتلال العراق في عام 2003، وبعودات متوترة ينتقيها الكاتب في نوع من الاستطراد، كلما احتاج واقع الرواية إضاءة من الماضي، وهي ذاتها المقدمات المنطقية التي جعلت حلب تُبتلع، وهي: المكان- المدينة- السياسة- الاقتصاد- الثقافة- التاريخ، وهي الرمز البارز في الحياة السورية، هكذا عنوةً، وبمأساوية، تراجعت المدينة النظير لمدينة ليون الفرنسية في صناعة النسيج، إلى مجرد مخزن بضائع كاسدة تعتمد فقط على شطارة تجارها في مقاومة حالة الابتلاع لصالح دمشق واللاذقية.
في عرف النظام، حلب أخطر عليه من دمشق، فسحب البساط من تحت قدمي حاضرها إلى حين، لكن تاريخها التجاري والثقافي ظل يشير إليها كإحدى أهم محطات طريق الحرير، وأهم مدن الشرق التي لم يغفل أحد من الرحالة فرصة زيارتها في طريقه إلى الشرق البعيد في الصين والهند.

اغتيال حلب
يقول خالد خليفة ما يقارب هذه المقولة العمومية شبه المتفق عليها بين الحلبيين ومحبي حلب من زوارها ومن أقام فيها دارساً أو مقيماً لفترة موقتة.

تبدو الرواية مجرد حكاية واقعية تمثلها أسرة حلبية من الطبقة المتوسطة، معيلها معلمة هجرها زوجها مع عالمة آثار أمريكية تعلمت صناعة مربى المشمش من المعلمة فخطفت زوجها وذهبت، غير أن جرعة الدراما في الرواية التي يكتبها خبير سيناريو يكره الخطابة تدل على حجم المرارة التي يريد إيصالها للقارئ البعيد الذي لا يملك خلفية عن حلب الأمس التي كان تجار النسيج وصانعوه فيها يهزون الأسواق بقراراتهم، قبل أن يتحولوا إلى سياسيين "حزب الشعب" فتهتز لهم العاصمة دمشق، وتتردد صدى تحركاتهم في الموصل، بل وتحث الكاريزما الحلبية من خلفهم صانعو قرارات الأمم في الخمسينيات لتشكيل حلف بغداد الشهير الذي قام ولم يقم، لكن أحفاد صانعي ذلك القرار لم ينسوا بعد أن بإمكانهم المحاولة من جديد.

عن حلب تلك يريد خالد خليفة التحدث، لكن دون التشعب في التاريخ الحلبي متعدد الروائح، فاختار أن يثبت أسوأ روائح العهد البعثي المديد، تاركاً لذاكرة القارئ أن تنشر من بئرها روائح الغار الحلبي في أسواقها القديمة، وأن يركب الأجزاء الناقصة التي تتداعى في الذاكرة عند قراءة حكايات إحباطات عائلة حلبية كانت تنظر إلى المستقبل فسحقتها عجلات قطار بطيء.

قصة مُعلنة
يُفترض أن الرواية ليست واقعاً يطابق حكايات عاشها الكاتب، غير أن كم القصص التي يوردها مما أعرفه أنا شخصياً يجعلني أعتقد أن ما أضافه الكاتب على الوقائع الشهيرة قليل القليل، لكن تلك الوقائع المتجاورة، المتواشجة، المتنافرة، والتقنية التي أخرجها بها، هي ما تحسب للكاتب، وبديهي أنْه "كيف نقول الأشياء هو أهم من الأشياء نفسها".

كان لابد لكل تلك الأحداث من نهاية روائية مفجعة ليس لها عواقب، وأي شيء أشد وقعاً من الموت أثراً على أشقاء عاشوا حياة لا طول لها ولا حول "وقبل نهوضي إلى سريري سمعت نزار يقول بهدوء: رشيد يريد أن يموت، كأنه يقول لي ببساطة أن أتدفأ بشكل جيد، فبرد كانون ينخر العظام، كان يعرف بأنه سيموت، وانتظر الفجر كي يتأكد بأن رفيق عمره ربط الأنشوطة بشكل جيد" ص255.

وأتم الكاتب روايته في ربيع 2013، وبدأها في خريف 2007، وتثير أماكن الكتابة (دمشق- أيوا- هونغ كونغ) ملاحظة إضافية إلى جانب الذاكرة المديدة للكتابة الموازية لزمن أحداث الرواية، إذ تبدأ بخريف وتنتهي بربيع، لعلها مجرد مصادفة أن تكون كُتبت بين خريف وربيع، دون أن نغفل أن الكاتب تمنى، في لا وعيه على الأقل، أن الحدث التراجيدي لبئر حلب آن له أن ينضح مائه الصافي.