الثلاثاء 30 سبتمبر 2014 / 19:29

الجهاد من "النخبة" إلى "الفتوة"



تطرح جماعات الاسلام السياسي، وأحدثها تنظيم "داعش"، الجهاد كفرض ديني تتولى هي القيام به مُستأنفة إرث الرسول والخلفاء والصحابة. يكرر موقف التنظيم اجتهادات مضى عليها وتنطوي على تصورات شديدة التبسيط والخطورة للتاريخ وللحاضر في آن ومصادرة للمجتمعات وأدوارها.

تتأسس وجهة النظر "الجهادية" على رؤية لينينة إلى النخبة المسيسة القادرة على حمل مطالب الطبقات والفئات الاجتماعية المقهورة والنطق باسمها، وصولاً إلى القيام بالثورة من أجل تحقيق مصالحها وأهدافها. تتشابه كذلك التبريرات والمسوغات اللينينية والإسلامية في تكليف النفس بهذه المهمة من دون العودة إلى الجماهير أو المؤمنين الذين يقول الثوار أو المجاهدون، أن السلطة الحاكمة قد أرغمتهم على الصمت ومنعتهم من التعبير عن رأيهم المضمون تأييده مسبقاً للثورة والخروج على الحاكم.

بيد أن هذا التفسير لم يكف الإسلاميين الذين استندوا إلى أدبيات تكفر المجتمعات بأسرها وتردها إلى سوية جاهلية لتبيح جماعات العنف الجهادي لنفسها بذلك الحق في الانقضاض على المجتمع، بسلطته ومدنييه، من مؤمنين وعلمانيين، مسلمين ومسيحيين. فتاوى "الجهاديين" المعاصرين طغى عليها التخبط والارتباك في تحديد العدو ومن يجوز استهدافه ومن يحظر المس به. ولجؤوا إلى عدد من الفتاوى القديمة عن "التترّس" و"الاحتطاب" لتبرير قتل المدنيين ونهب الممتلكات.

لكن فلنعد إلى الوراء لمزيد من الوضوح. يلاحظ هشام جعيط في كتابه "الفتنة" أن المستشرقين الذين بنوا نظريات عدة عن أسباب الفتوحات العربية في موجتها الأولى، وقدموها باعتبارها حلاً لأزمات عربية- إسلامية اقتصادية بسبب الفقر والاكتظاظ أو سياسية للخروج من أجواء حروب الردة وتوجيه التوتر نحو الخارج، قد فاتتهم ملاحظة بسيطة ولكن ومهمة وتتلخص في أن الخليفة الأول، أبي بكر الصديق، قد منع القبائل التي ارتدت عن الاسلام بعد وفاة الرسول من المشاركة في الفتوحات وأنه اختار بعناية قادة السرايا والجيوش على أسس يمتزج فيها الإيمان الراسخ بالدين الجديد بالكفاءة إضافة إلى الانتباه إلى المعطى القبلي. وانتهج عمر بن الخطاب النهج ذاته قبل أن يخفف من القيود على المشاركة في الفتوحات عندما اتسعت وخبت ذاكرة حرب الردة.

اللافت للانتباه هنا، أن الفتوحات وبالتالي "الجهاد" بمعناه المسلح والعسكري الموجه نحو عدو خارجي اتفقت جماعة المؤمنين على كفره وإمكان الانخراط في القتال ضده (ولم يكن من شيء يضمن النصر في تلك الأثناء على الامبراطوريتين البيزنطية والساسانية الفارسية)، قد كان عملاً نخبوياً محصوراً بمن ثبت على الإيمان ولم ينجر إلى نوازع الانتماء القبلي الذي زيّن للعرب الارتداد.

في المقابل، تفيد مراجعة سير عناصر "داعش" الشخصية والاجتماعية بشيء آخر تماماً. فإذا عدنا إلى سيرة مؤسس التنظيم الأم الذي جاءت "الدولة الاسلامية" من صلبه، ونعني أبا مصعب الزرقاوي، لوجدنا شخصاً ذا سوابق إجرامية عادية بدأ احتكاكه بالإسلاميين في السجن الذي دخله على خلفية جرائم حق عام. ولرأينا "فتوة" من فتوات الأحياء الفقيرة يعوزه الحد الأدنى من العلم والاطلاع على ما كرس نفسه له من مهمات كبيرة. الخلفية هذه يتشارك فيها الزرقاوي مع مئات من "المجاهدين" الذين جاءوا إلى سوريا والعراق من مشارق الارض ومغاربها: الهامشية الاجتماعية، اليأس، الفقر، انعدام آفاق الترقي الاجتماعي، تواضع المعرفة السياسية والدينية.

ومن دون الخوض في مسألة الفتوحات الشائكة والتي ما زالت موضع أخذ ورد بين العرب والمسلمين وغيرهم، يتعين النظر إلى التركيبة الاجتماعية "للجهاديين" المعاصرين بذات الاهتمام الذي تناله مسائل عقائدهم وآرائهم والفتاوى التي تحركهم والقيم التي يحاولون فرضها على المجتمعات العربية وخصوصاً حيث امتلكوا السطوة والسلطة.

فانتقال "الجهاد" من مشروع "جماعة المؤمنين" بقيادتهم الشرعية (ومرة ثانية بغض النظر عن حق هذه الجماعة في مباشرة غزو إراضي الآخرين، بحسب العبارات المعاصرات) إلى تعبير عن أزمة خانقة في المجتمعات العربية لا تجد أدواتها إلا بهذا النوع من العنف الاعمى والعبثي، شأن خطير يدل على تعدد أوجه المآزق التي تعيشها بلادنا، وتنوع مستوياتها وأوجهها. فهي اجتماعية- اقتصادية بمعنى انتشار الفقر والبطالة وغياب المشاريع التنموية الحقيقية، وسياسية ناجمة عن حصر الخيارات بين انظمة حكم عصبوية وبين انهيار كل محاولات التغيير الديموقراطي إلى حروب اهلية ودينية، وثقافية تظهر عبر تسيّد الانحطاط الدالّ عليه غياب التجديد والتعدد وانحسار الفكر النقدي لمصلحة الاجترار، أو الركون إلى رؤى أحادية سطحية لا تقوى على إدراك تعقد الواقع وصعوباته.
غالباً ما تستخدم جماعات الإسلام الديني خصوصاً التي تبرر العنف، التاريخ وتحمله بما تريد من مضمامين. بيد أن القراءة المتأنية تظهر خواء المحاولات تلك وفقر خيال أصحابها.