الإثنين 20 أكتوبر 2014 / 00:16

بلورة كلينتون السحرية



على نقيض القاعدة المعتمدة لدى مراجعة أيّ كتاب جديد، والتي تقضي بالشروع في قراءة العمل بادئ ذي بدء، شاءت أقدار "خيارات صعبة"، كتاب هيلاري كلينتون الجديد، أن يُراجع على نطاق واسع، ويشتهر سريعاً، وعلى نطاق كوني، من خلال حفنة تسريبات مثيرة نشرها موقع "بوليتيكو" مسبقاً، وفتحت شهية الكثيرين إلى السجال حول محتوى التسريب، بدل الانصراف إلى تثمين فصول الكتاب ذاته.

ولأنّ كلينتون تولت وزارة الخارجية خلال السنوات الثلاث الأولى من عمر "الربيع العربي"، فإنّ ما سرّبته حول السياسة الخارجية لإدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما في الشرق الأوسط أشعل الأقلام المتلهفة على الدراما، كما ألهب مخيّلة أولئك المولعين بالتضخيم والتهويل. ولم يكن غريباً، والحال هذه، أن ينساق محللون وكتّاب عرب إلى أكذوبة اختلقها أحدهم، ونسبت إلى كلينتون قولها في الكتاب الجديد، إنّ أمريكا هي التي خلقت "داعش"!

وهكذا، وفي غمرة الانشغال بمسرح التسريبات، كفّ الكتاب ذاته عن وظيفته الابتدائية كعمل يدوّن مذكّرات وزيرة خارجية القوة الكونية الأعظم، عن بعض أسرار ما شهدته تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا من وقائع جسام؛ وصار الكتاب أشبه ببلورة كريستال سحرية، على حدّ تعبير المعلقة الأمريكية المخضرمة آن أبلبوم: يقفز ساسة العالم، ومعهم صنّاع الرأي العام، مباشرة إلى مسرد الأسماء في ختام الكتاب، ليروا هل أتت كلينتون على ذكرهم، وكيف، ولماذا!

والحال أنّ خيار التسريب هذا، وما اقترن به من إثارة الضجيج والعجيج، كان يخدم أحد الأغراض الكبرى من وراء إصدار الكتاب في المقام الأول؛ أي الهندسة المسبقة للحملات التي من المؤكد أنّ كلينتون سوف تنغمس فيها، من الرأس حتى أخمص القدمين، حين ستقرر خوض المعركة الانتخابية الرئاسية القادمة، سنة 2016. الشطر الثاني من التكتيك انطوى على إكثار كلينتون من اللقاءات والمقابلات والتصريحات، بذريعة الترويج للكتاب؛ وأمّا الهدف الأبعد فقد كان النأي بالنفس عن سياسات أوباما الخارجية، والغمز من خياراته في الملفّ السوري تحديداً، خاصة رفضه تسليح الفصائل المسلحة داخل صفوف المعارضة السورية "المعتدلة"، الأمر الذي ترك الساحة مفتوحة أمام صعود "داعش" والجهاديين.

هذا الانفكاك المعلن عن خطّ البيت الأبيض أكسب كلينتون جولة معنوية، وإعلامية بالطبع، حين تعاظمت قوّة "داعش" في العراق بعد سوريا، وصار لزاماً أن يعدّل أوباما خياراته، بحيث بدا أنها تقترب من أطروحات كلنتون، وتمنحها فضيلة الحكمة والتبصر. وللمرء أن يفترض، بذلك، أنّ مؤلفة "خيارات صعبة" خلّفت وراءها ذلك الفاصل العاطفي الحزين، سنة 2008، حين ترقرقت دميعات في مقلتَيْ السناتور هيلاري رودام كلينتون، الساعية إلى بطاقة ترشيح الحزب الديمقراطي، ضدّ بلدوزر كاسح يومذاك، كان يُدعى أوباما. وللمرء ذاته أن يعود إلى كتاب آخر من كلنتون، عنوانه "التاريخ الحيّ"، تتوقف فيه عند فضيحة زوجها الرئيس الأسبق مع المتدربة في البيت الأبيض مونيكا لوينسكي؛ فتقول إنه مرّت على آل كلنتون حقبة كان فيها الكلب "بَدي" هو الوحيد المستعدّ لمعاشرة عميد الأسرة، السيد الرئيس.

وفي قناعة كاتب هذه السطور، كانت كلينتون خير مَنْ استفاد من الفضيحة، إذْ أنها تصرّفت بذكاء سياسي وسيكولوجي وإعلامي فائق، وسحبت البساط من تحت قدمَي الرجل المستسلم أمام كلّ السكاكين، ثمّ استأثرت بصورة الزوجة ـ الضحية التي كبرت على جراحها وتطلعت إلى أمام وإلى بعيد، أي إلى ما هو أسمى من الفضيحة ذاتها. وحين كان بيل لا يعرف من أين تأتيه الطعنات، كان نجم هيلاري يصعد ويصعد، وظلت المحامية السابقة الطامحة ترنو إلى سدّة أخرى: مبنى الكابيتول، ثمّ البيت الأبيض... رئيسةً هذه المرّة، لا سيّدة أولى فحسب.

وقائع اليوم تقول إنّ فشل كلنتون أمام أوباما، في معركة الترشيح لبطاقة الحزب الديمقراطي للرئاسيات سنة 2008، لم يتحوّل إلى هزيمة قاطعة، بدليل أنها اليوم تشتغل منهجياً، ببطء وتؤدة وصبر وذكاء، لكي يصبح ذلك الفشل نسياً منسياً، من جهة أولى؛ ولكي تبني عليه بما يتيح تلميع صورتها الرئاسية في أكبر عدد ممكن من بلورات الكريستال، تلك التي على شاكلة كتاب ذاع صيته... حتى قبل صدوره!