الخميس 30 أكتوبر 2014 / 11:53

ليس من حلّ سحريّ



حين حلّت جريمة 11 سبتمبر (أيلول) 2001 في عاصمة الولايات المتّحدة وفي مدينتها الأهمّ، أشاع سياسيّون وكتّاب أمريكيّون، وقد لاقاهم في ذلك بعض العرب، أنّ الاستبداد وانعدام الديمقراطيّة هما السبب الحصريّ لظهور الإرهاب والتطرّف ولانتشارهما. وبالتالي، ففي مجرّد أن يُكتب للتعدّديّة السياسيّة وللحرّيّات أن تقلع في الربوع العربيّة تختفي هذه الظواهر العدميّة وتضمحلّ.

وأغلب الظنّ أنّ هذه النظريّة ليست خاطئة، بل هي تنطوي على الكثير من عناصر الصحّة، إذ يكاد يكون من البديهيّات أنّ توفُّر حيّزات سياسيّة ومجتمعيّة تصبّ فيها الجهود والطاقات إنّما يلغي الحاجة إلى تصريف هذه الطاقات عنفيّاً. وهذا فضلاً عن أنّ المجتمع السياسيّ وحرّيّة التعبير فيه يضعان الشعب في مواجهة مباشرة مع مشاكله الفعليّة التي تتّصل بالاقتصاد والعمالة والتعليم والسكن وغير ذلك، بدل محاربة أعداء وهميّين يُنسب إليهم السعي إلى تدمير الأمّة أو التآمر على الشعب.

مع ذلك فصحّة هذه النظريّة تبقى، في آخر المطاف، نسبيّة. دليلنا على ذلك الوضع التونسيّ الراهن.

صحيح أنّ تونس يحقّ لها أن تفاخر بثمار ثورتها قياساً بما آلت إليه أحوال الثورات الأخرى في "الربيع العربيّ"، وما الانتخابات النيابيّة الأخيرة غير شهادة ساطعة على ذلك. مع هذا فإنّ تونس، التي باتت تتمتّع بالحرّيّات والتعدّد السياسيّ، تبقى من أكثر البلدان إنتاجاً للتكفيريّين المتطرّفين الذين "لمع" بينهم قادة باتت أسماؤهم شهيرة، كسيف الله بن حسن (أبو عيّاض) والخطيب الإدريسيّ والبشير بن حسن وسواهم. ثمّ إنّ تونس، وهذا هو الأهمّ، تُعدّ أكثر الدول تصديراً للمجاهدين الذين يتوجّهون للقتال في سوريّا والعراق في صفوف تنظيم "داعش" وأخواته.

وما من شكّ في أنّ السياسة التي اتّبعتها حكومتا حزب "النهضة" الإخوانيّ بعد الثورة، لجهة فتح الباب أمام المتطوّعين وإتاحة سفرهم إلى الخارج، ومعها التسهيل التركيّ للمجاهدين ولانتقالهم إلى سوريّا، إنّما ساهمت في تظهير هذه الحالة في تونس. إلاّ أنّ السياسة المذكورة، بشقّيها التونسيّ والتركيّ، ليست هي ما خلق هذه الحالة التي تجد أسبابها في مكان آخر.

في هذا المعنى يصعب التغافل عن عنصرين مهمّين، واحدهما اقتصاديّ يتّصل بتراجع أداء الاقتصاد التونسيّ وانسداد فرص العمالة أمام طالبيها من الشبّان، بمن فيهم الخرّيجون الجامعيّون، خصوصاً أنّ الدولة التونسيّة وقطاعها العامّ كانا تقليديّاً يشغلان موقعاً بارزاً في الحياة الاقتصاديّة وفي تقديماتها وفرص العمالة التي توفّرها. أمّا العنصر الثاني فيتعلّق بمدى التفتّت المجتمعيّ، حيث تضطلع الجهويّة (أو المناطقيّة) بدور يشبه الدور الذي تضطلع به الطائفيّة في بلدان المشرق، وإن ظلّ تفجّرها العنفيّ محدوداً جدّاً قياساً بما فعلته وتفعله الطائفيّة المشرقيّة. وبدورها، كانت الانتخابات النيابيّة الأخيرة قد كشفت عن هذا التفتّت من خلال العدد الهائل للمرشّحين وللقوائم المتنافسة (1300 قائمة حزبيّة وفرديّة للفوز بـ 217 مقعداً فقط).

وهذا جميعاً ما يسمح بالقول إنّ مكافحة التطرّف في مجتمع ما يتطلّب، فضلاً عن الحياة السياسيّة التعدّديّة، وهي بالتأكيد شرط شارط لأيّ نجاح، مواجهتين أخريين، اقتصاديّة وثقافيّة لا هوادة فيهما.

أمّا المواجهة الأولى فتبدأ بتحرير الدورة الاقتصاديّة بحيث تجتذب الرساميل المطلوبة لتوفير فرص العمل لطالبيها، على أن يترافق هذا مع توزيع للثروة المتحصّلة يتوخّى أكبر درجة ممكنة من العدل. وأمّا المواجهة الثانية فمدارها مسألة الهويّة الوطنيّة لتونس بوصفها البديل عن الولاءات الجزئيّة والفرعيّة، وما يستلزمه ذلك من جهد يمتدّ من التمثيل السياسيّ إلى التعليم.

وقصارى القول إنّ ما من حلّ سحريّ، وليس هناك دواء واحد، لمشكلة عميقة ومتعدّدة الأبعاد كمشكلة الإرهاب.