الخميس 30 أكتوبر 2014 / 21:04

مأزق د. سعد الدين إبراهيم

 

وقع د. سعد الدين إبراهيم - أستاذ علم الاجتماع السياسي بالجامعة الأمريكية بالقاهرة ومدير مركز ابن خلدون - في مطب استدرجه إليه أحد مقدمي البرامج في فضائية عربية، وطبقاً لروايته فقد ظل صاحب البرنامج يلح عليه لإجراء حوار معه عبر الهاتف يدور موضوعه حول التطورات التي وصلت إليها الأوضاع السياسية في المنطقة على ضوء ما يجرى في ليبيا وسوريا واليمن والعراق، ومع أنه تردد لأن القناة الفضائية تتبع سياسة تعبوية معادية للسياسة المصرية الراهنة، إلا أنه تخلى عن تردده أمام الإلحاح المتواصل من صاحب البرنامج.

وبعد فترة من بداية الحوار اكتشف أن الموضوع الذى دُعي للحديث عنه لا يهم صاحب البرنامج في شيء، وأنه مجرد غطاء لاستدراجه للحديث عن الأوضاع في مصر عبر سلسلة من الأسئلة الاستفزازية انتهت بأن تخلى د. سعد الدين إبراهيم عن حذره ونسي خبرته الطويلة في التعامل مع هذا النوع من الأسئلة، وفقد سيطرته على أعصابه، فصدرت عنه سلسلة من الشتائم، شملت مقدم البرنامج والدولة التي تملك القناة، وبعض المقامات المصرية العالية، مما اضطره فيما بعد إلى الاعتذار عنها في مقال نشرته الصحف.

وبصرف النظر عن تفاصيل أخرى، ربما نعود إليها في سياق هذا المقال، فإن ما حدث يطرح من جديد مسألة مدونات السلوك المهني، ومواثيق الشرف الإعلامية التي يجرى اختراقها على نطاق واسع في كثير من أجهزة الإعلام العربية المرئية والمسموعة والمقروءة، حتى كادت تتحول إلى مرض إعلامي قومي مزمن لا شفاء منه، وتنويعاً على ظاهرة "العرج الثقافي" الذى تعانيه الأمة العربية، وهي حالة مرضية، يقول علماء الاجتماع: إن المجتمعات تصاب بها حين تتقدم حياتها المادية وتستخدم أحدث منجزات الحضارة العصرية من الهاتف المحمول إلى الطائرة النفاثة، ومن الإنترنت إلى القنوات الفضائية، بينما تظل ثقافتها الاجتماعية عاجزة عن تحقيق نفس الدرجة من التقدم وتقف محلك سر عند المراحل الزراعية والقبلية التي سبقت الثورة الصناعية وثورة الاتصالات, فتسير بساق أطول من الأخرى، وترتبك خطواتها إلى المستقبل، لأن إحدى الساقين تقودها إلى الأمام بينما تقودها الأخرى إلى الخلف.

وتطرح واقعة المطب الإعلامي الذى استدرج إليه ووقع فيه د.سعد الدين إبراهيم، أسئلة تدخل في صميم افتقاد معظم القنوات الفضائية العربية، إلى أية مدونة للسلوك المهني تلتزم بها القناة وتلزم بها العاملين بها وتحاسبهم عند الخروج عنها.. ومن بينها مثلاً: هل يجوز للإعلامي أن يدعو ضيفه للحوار حول موضوع معين ثم يفاجئه أثناء الحوار بموضوع آخر خارج نطاق ما اتفق معه عليه؟.. وهل تجيز له مدونات السلوك المهني أن يسعى لتوظيف ما يقوله الضيف لصالح الخط السياسي الذى تتبعه القناة، ومع تجاهل منها لأن الضيف - حتى لو كاد يتفق مع هذه القناة في بعض آرائها - إلا أنه قد يفضل إذاعتها في قناة أخرى، حتى لا يبدو وكأنه يشارك في حملة منظمة ضد بلاده تخدم أهدافاً لا صلة له بها، ولا علاقة بينها وبين ما يقوله من آراء؟

وهل تضم مدونات السلوك المهني نصاً يجيز للقناة أن تجتزئ من حوارها مع د. سعد الدين إبراهيم - الذى استغرق ما يقرب من الساعة - المقطع الأخير منه الذى ينطوي على الشتائم التي وجهها للمقامات المصرية العالية، في لحظة أفقده فيها الاستفزاز السيطرة على أعصابه لتعيد بثها وحدها وتكرر هذا البث بعيداً عن النص الكامل للحوار وعن السياق الذى صدرت عنه فيها هذه الشتائم وكأنها تستمتع بذلك وتنيبه عنها - على غير إرادته - في توجيهها إلى من وجهت إليه.

الذى أعرفه أن مدونات السلوك المهني تفرض على الإعلامي أن يقاطع الضيف إذا صدرت عنه ألفاظ تنطوي على سب وقذف في حق شخصيات أخرى، وأن يقطع البث عنه إذا كان البرنامج يذاع على الهواء مباشرة، وأن يحذف هذه العبارات عند إعادة إذاعة البرنامج، أما أن تقتطع القناة ألفاظ الشتائم من السياق لا لكى تحذفها بل لكى تعيد بثها وحدها دون أن تبث الحوار نفسه وكأنها تريد إمتاع مشاهديها بكوبليه من إحدى أغاني أم كلثوم.

والحقيقة أن ظاهرة استفزاز الإعلامي أو الصحافي لضيوفه الذين يحاورهم بأسئلة تجرح مشاعرهم أو تنطوي على تدخل فظ في حياتهم الشخصية، ينتهك حقهم في الخصوصية والذى يصونه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أو استدراجهم لتوجيه أقذع الشتائم لخصومهم الشخصيين أو السياسيين أو تحريض ضيفين يتناظران على الهواء مباشرة حول قضية عامة، على تبادل الهجوم الشخصي وأحياناً على الاشتباك بالأيدي.. إلخ، قد أصبح يشكل ظاهرة من الظواهر الشائعة في الإعلام العربي، آن الأوان للتصدي لها، خاصة وأنها أصبحت تتمتع بجاذبية خاصة لدى كثيرين من شباب الصحفيين والإعلاميين، مما لا يهدد فحسب مستقبل الإعلام بالخطر، بل يهدد كذلك مستقبل الديمقراطية بكل أدواتها.. حين يرسخ في أذهان الأجيال القادمة أنها مجموعة منتقاة من الشتائم وألفاظ السباب والمقالب يتبادلها ساسة ومفكرون ينسب كل منهم للآخر كل الجرائم التي يعاقب عليها قانون العقوبات وكل النقائص التي يحفل بها قاموس الأخلاق السيئة.

وقد كنت - وما زلت- أقول إن الحرية قادرة على أن تنظم نفسها بنفسها دون حاجة لتدخل من أحد، خاصة من الحكومات العربية، لكن التجربة تثبت أن معظم الفضائيات العربية لا تزال - بعد خمسة عشر عاماً من ظهورها على شاشة الإعلام العربي - مصابة بهذا العرج الثقافي الذى يدفعها لاستغلال أحدث ثورات العصر وهى ثورة الاتصالات في إشاعة أقدم الآفات الأخلاقية التي عرفتها البشرية، وهى السب والقذف والتشهير وتدبير المقالب.

وما لم تتنبه الجماعة الإعلامية العربية إليه قد آن الأوان قد حان لعلاج بعض المنتمين إليها وبعض شاشاتها من هذه الأمراض اللعينة، لكى يلتزموا طوعاً بالمدونات الأخلاقية للمهنة، فسوف يغرى ذلك الحكومات بالتدخل للتضييق على حرية الإعلام، متذرعة بضيق المجتمعات العربية مما تبثه هذه الشاشات من مواد تعلم الناشئة قلة الأدب وتشيع بينهم لغة السباب والشتائم، فعليهم ألا يدهشوا حين تخرج مظاهرات حاشدة تهتف في الشوارع العربية: تسقط حرية الإعلام.