الجمعة 31 أكتوبر 2014 / 13:21

دولة "ما بعد القانون"



انتهت معارك طرابلس اللبنانية فجأة مثلما بدأت. اختفى المسلحون الذين نزلوا إلى الشوارع من دون أن يتركوا أثراً باستثناء بعض القتلى والمعتقلين لدى الجيش، وشعور قوي وكريه أن الامور مقبلة على انفجار جديد بعد أشهر أو أسابيع قليلة.

ورغم سقوط عشرات القتلى والجرحى من العسكريين والمدنيين والمسلحين، ورغم الدمار الواسع في عدد من الشوارع، إلا أن المشهد الأمني- السياسي لم يتبدل تبدلاً يذكر بعد الأيام الثلاثة من القتال بين المسلحين المحسوبين على "جبهة النصرة" وتنظيم "داعش" وبين الجيش. بل يمكن القول إن معركة طرابلس زادت من استياء أقسام من السنّة اللبنانيين من طريقة تعامل القوى الأمنية الرسمية معهم في الوقت الذي يظهر فيه مسلحو طوائف أخرى بكامل عتادهم في رابعة النهار في شوارع بيروت وغيرها من دون أن توجه إليهم كلمة واحدة.

لكن دعونا نتفق أن الاعتراض هذا سطحي وشكلي ولا يمس عمق الأزمة اللبنانية التي لا تقوم على المقارنات بين ما يجري في مناطق ذات أكثريات طائفية مختلفة وأسلوب تعامل الأجهزة الرسمية مع قوى الأمر الواقع فيها. وفي الوسع الحديث عن أزمتين متوازيتين في لبنان اليوم.

الأولى هي أزمة الطائفة السنية: ما اصطلح على تسميته بـ"قوى الاعتدال" في هذه الطائفة تربط كل رهاناتها بمشروع الدولة وقيامها وانتظام عمل مؤسساتها ضمن القوانين السارية. ترى هذه القوى وفي مقدمتها "تيار المستقبل" أن السنة لا يستطيعون تشكيل كيانات منفصلة عن الدولة ولا بناء ميليشيات مسلحة وأن مصلحتهم النهائية تكمن في إحياء الدولة التي تتبنى اتفاق الطائف، مع بعض التعديلات عليه. الدولة المأمولة هي التي ستستوعب باقي الطوائف وتمتص التوترات بين الجماعات وستكون مؤسسة الجيش البديل الوحيد لكل الميليشيات القديمة والجديدة في لبنان.

ما ينقض رؤية "الاعتدال السني" هذه ويقتلعها من جذورها أن مشروع الدولة يبتعد يوماً بعد يوم عن حيز التطبيق العملي، بل حتى الإمكان النظري. فالقواسم المشتركة بين اللبنانيين تتناقص طرداً مع رسوخ لغات الطوائف ومنطقها المغلق والعدائي على حساب الانفتاح والتعدد والاعتدال.

جانب ثان يعمق هذه الأزمة. ذلك أن مشروع الدولة وقدرتها على امتصاص "فائض القوة" الذي لا يكف "حزب الله" وأنصاره عن استعراضه وتهديد اللبنانيين الآخرين به، يبدو كخطاب موجه إلى سنّة المدن الذين تبدو مصالحهم رهينة الاستقرار ولو بحده الأدنى. يتعارض هذا الخطاب تعارضاً تاماً مع تصورات سنّة الأرياف التي تزداد فقراً وتهميشاً وانعزالاً عن الزعامات السنية المدينية. ولا يجد هؤلاء غير شيوخ التيارات الجهادية يتوجه إلى شعورهم العميق بالمظلومية والإقصاء حتى من أبناء طائفتهم ذوي الأصول المدينية.

هنا تظهر أبعاد الأزمة الثانية. أزمة الدولة والنظام السياسي اللبنانيين. الشرط الشارط لقيام هذين الاثنين هو تطبيق نظم وقوانين واحدة على رقعة جغرافية محددة ومن التطبيق المذكور تصدر السيادة (في غير الدول الفيدرالية والأشكال السيادية المختلفة).

ما يعيشه لبنان اليوم هو تعدد القوانين وتطبيقاتها والشدة في الالتزام بها بين منطقة ومنطقة على نحو يعيد انتاج سياسة الرعايا ويطيح بما تبقى من فكرة المواطنة والمساواة أمام القانون وبالتالي مبررات وحدة الأرض والمؤسسات.

يلازم التفاوت في درجة تطبيق القانون بين الطوائف والمناطق العجز عن تغيير النظام السياسي في اتجاه التقسيم أو الفيدرالية أو صوغ نظام طائفي جديد. عليه، وعند النظر إلى لبنان ككل، يمكن ملاحظة نوع جديد من الأنظمة المركبة والمتفاوتة بحيث تبدو السلطات نشيطة وجادة في ممارسة وظائفها في مكان، وغائبة جزئياً في مكان آخر، ولا أثر لها البتة في مكان ثالث، وفقاً لحجم ودور قوى "الامر الواقع" في مصادرة الحيز العام ومهمات السلطة. ينشأ هنا وضع نادر الوقوع، ينقلب القانون فيه من عنصر توحيد للمواطنين إلى عنصر تمييز وتفرقة بينهم، بحيث يصبح البلد في حالة "ما بعد القانون" بمعناه التقليدي.

لا يمكن لقارئ الشأنين السياسي والقانوني التنبؤ بصمود المزيج غير المستقر هذا.

وبالاستعانة بأحداث طرابلس، يمكن لمس معادلة افضت الى انكفاء الاحتجاج المسلح والعنيف على انعدام المساواة هذا، مقابل "الحق" في تفجير الموقف مرة جديدة يتعلق قربها أو بعدها الزمني بجملة من المعطيات لعل أهمها مجريات الصراع في سوريا.

تنجدل أزمتا السنّة والنظام السياسي في لبنان على بعضهما بحيث تشكلان عائقاً كبيراً أمام أي مخرج سلمي للوضع في البلاد. ويصعد من حديتهما الارتباط التام لممثلي الطائفة الشيعية بالمشروع الامبراطوري الايراني، ما يضع لبنان في قلب الحرب الإقليمية الدائرة حتى لو لم يرغب أطرافها بزجه بها.