الجمعة 31 أكتوبر 2014 / 13:54

الليلة الأخيرة في رأس الراوي



خرج العم خيري من بلدته الصغيرة باحثاً عن شخوصه وسط القري والشوارع التائهة في مدن كبيرة، مدن موحشة، يحيطها الخطر وتغلفها نسمة هواء مرتعشة بين الحين والآخر، في كل قرية يجوبها العم خيري يلمها كقطعة قماش ويضعها براسه.

ما من قرية رآها إلا وشكلها واختار لها مكاناَ يناسبها داخل رأسه لتكون جزءاً من قرية واحدة يملكها وحده، ويجمع شخوصه ويهندمهم ويصبغهم بروحه، وفي كل ليلة يجمعهم العم خيري ليحكي لهم قصة أحدهم علي الملأ وكيف حضر إلى رأسه ولماذا، ويسمعونها من باب النميمة، يضحكون أحياناً علي صاحب القصة وأحياناً يتعاطفون معه، فيتسارع كل منهم ليقبله ويربت علي رأسه بحنو وعطف، هكذا علمهم العم خيري، أن القلب يحمل الحكايات النظيفة ويحمل المحبة، هناك سؤال يتبادر لأذهانهم كل فترة، لقد سمعنا حكاياتنا ولم نسمع حكاية العم خيري، لماذا لم يجمعنا في يوم ليحكي لنا كيف جاء وكيف انتزع من الحياة وجوده وكيف تشكل وجدانه؟.

العم خيري في قلبه سر لم يخبر به أحداً، وفي رأسه أناس لم يرحلوا، يأكلون ويشربون ويكذبون ويلعبون، لا يملكون قوت يومهم، يغدق عليهم العم خيري كل ليلة نوراً وحياة ليكملوا حياتهم ويملؤون قريتهم بالصخب، ويشيّدون ما تبقي من مدن قديمة ويلعبون بالنهر، كل منهم يدرك حجم ابتسامة الآخر، أعينهم لامعة طوال الوقت من غياب النوم .

تجمهرت شخوصه أمام مكتبه وظلوا ينادون عليه: "يا عم خيري.. يا عم خيري". خرج لهم العم خيري مبتسماً، وظل يحدق في كل وجه، وكأنه يخبر كل وجه بشيء يخصه، طلاسم لا يعلمها إلا صاحبها (ليست هذه عادته يا صديقي) قالها شخص لآخر وهو في حالة دهشة، ثم تكلم العم خيري بحكمة العارف بالله: "أعرف ما يشغلكم في القريب العاجل سأخبركم وأجيب على ما يدور برؤوسكم جميعاً، أكتب الآن كل حكايتي علّي استريح، أريد أن أستريح، لقد تعبت، أريد أن أسكن وحدتي التي ظلت تطاردني طوال حياتي وأريد أن أسجل كل شخوصي ولكن يبدو أن الوقت ليس دائماً في صالحي، ولكني أشهد أني سعدت".

هتف أحدهم: نتركك الآن لتستريح ونلتقي بعد يومين لتحكي لنا.

هز العم خيري رأسه ثلاث مرات معبراً عن موافقته، وانصرف الجميع ببطء شديد.

وفي الليلة الأخيرة التي من المفترض أن يجمعهم العم خيري ليحكي لهم حكايته وسره، مرت على القرية غمامة حزينة، هناك شيء ما سيحدث بالقرية، اليوم تتوقف ماكينات الطحين والساقية لم تعد تلف، شخوصه في بيتوهم لا يتكلمون، يعلمون أن الموت علي باب القرية وفي طريقه للعم خيري فأخبروه.

لم يخش الخبر ولم يرتعد، وقف مبتسماً وقال: أنا انتهيت من كتابتي، والآن سأشرب كوب الحليب وفي انتظاره، وإذا رأيتموه لا توبخوه فإن هذا عمله، لا تضايقوه، لقد أخبرني بقدومه قبل يومين، فله جزيل الشكر.

تناثرت دمعات بسيطة دون أن يلحظوا من عين العم خيري، ثم قال: سأفتقدكم جميعاً، وسأفتقد أنس الحبايب والابتسامات الموزعة عليكم بالتساوي، سأفتقد روح الأحباء التي صاحبتني طول الطريق، سنغني سوياً أغنية دون بكاء "الدنيا ريشة في هوا ..طايرة ما بين جناحين .. واحنا النهاردة سوا وبكرة هنكون فين ..في الدنيا".

الأعين تغرغرت بالدموع وأكملوا الأغنية بالبكاء، وراح العم خيري يحضنهم واحداً تلو الآخر وعينه تنهمر منها الدموع وقلبه به رعشة صعدت لجسده، وحضر ملاك الموت، وصعد به ببطء شديد، ملاك الموت يبكي ويغني معهم "الدنيا ريشة في هوا".

وبعد لحظات وقف طفل صغير وهو يلوح للعم خيري، وقال: مع السلامة يا عم خيري