الأربعاء 12 نوفمبر 2014 / 10:21

دقيقة واحدة وثوان ست



نحتاج إلى أن نكون أشخاصا لم يعرفوا قلوبَهم حتى لا تبلغ الدموع مآقينا ونحن نتابع ذلك الشريط من دقيقة وست ثوان، لطفل لم يتجاوز الثماني سنوات، وهو يرمي نفسه في مرمى طلقات القناص، لينقذ طفلة تصغره سنا، ربما تكون أخته.

في دقيقة وست ثوان، ذهب الطفل إلى الموت ورجع من الموت، ومعه طفلة كان مقيضاً لها أن تصير جثة هامدة، مضرجة بدم طفولتها بين منازل محطمة وعربة محترقة، بينما القناص، الذي أنجز المهمة الموكولة إليه، يريح قناصته على طرف الجدار ويمسح حبات العرق عن جبينه النذل.

دقيقة، لا تشبهها أي دقيقة من تلك التي اختبرنا فيها بأنفسنا أقصى الخطر. مقطع فيديو سوري، نشرته الغارديان، ومعها الديلي تلغراف، والمكان فضاء صغير بين أبنية طالتها آلات الموت، وسكنها قناص يقطع الطريق، فالعابر ميت، وحتى من يطل برأسه من نافذة. وماحدث، في دقيقة وست ثوان، شيء يشبه المعجزة، قوة البراءة وإلهامها الطفوليان ينتصران على وحش الموت، تماما كما يحدث في الأساطير، لكننا هنا في الأرض.

في أول المقطع يخرج فجأة من يمين المشهد رجل مسرع من مبنى مهدم، وتئز في جواره رصاصة، ثم أخرى، لكنه ينجو. ثم نرى في يسار المشهد صبياً مكوما في الأرض، الكاميرا ما تزال مسلطة عليه، كاميرا مرتجفة، لكنه الآن يتحرك، ثم لا يلبث أن ينهض من موضعه، ويهرع على مسافة 7 أمتار متجها نجو عربة محطمة، سرعان ما نكتشف أن وراء عجلاتها الأمامية لبدت هناك طفلة صغيرة. قبل أن يبلغ الصبي منتصف المسافة، نحو هدفه، تئز رصاصة، فأخرى. يتعثر الصبي ويجاهد، وسط غبار قدميه، وغبار الطلقة. ثم رصاصة ثالثة، ويسقط الصبي. يهتف صوت في الشريط: يا الله..لكن الصبي الذي لبد قليلا، بلا حركة، موحيا للقناص بأنه صيب، فجأة يباغتنا وينهض، وتلاحقه الطلقات وهو يجري، ويتوارى وراء العربة. وقبل أن نحدس ما يجري، ينهض الصبي من مكمنه. لقد بات الآن مكشوفا للقناص، تماماً، وعرضة للقنص، لكن يده تمسك بيد الطفلة التي ستظهر ببلوزتها الوردية، مترددة تسحب يدها إلى الخلف، والصبي يشدها نحوه، يريد أن يهرع بها لاجتياز المسافة، عائدين من حيث أتى. بدت الطفلة أصغر منه، ربما لا يزيد عمرها عن الست سنوات، وقبل أن ينطلق بها سيدوي صوت وتخترق الرصاصة، لكأنها اخترقت، المسافة الضيقة بين الصبي والطفلة. وقبل أن ينطلق الصبي بالطفلة ستدوي الرصاصة الثانية، والثالثة، والرابعة.. وعلى طول المسافة إلى أن يتواريا في يسار المشهد وراء حائط، سوف تدوي الطلقات ويكافح القناص، بكل ما يملك من إصرار ليفوز بهما، أو، أقله، بأحدهما. لكن الأمر جرى على نحو مختلف ومدهش.

بعد رؤية المقطع، مرة واثنتين وثلاثاً، لم يعد سؤالي، أي شجاعة هذه، وأي شهامة، أي نكران للذات هذا الذي أزهر في طفل صغير ليصير في دقيقة وست ثواني، رجلا كامل الرجولة، ومن ثم بطلا يناور الطلقات لينجو بحياته وحياة طفلة كانت قد لبدت بين عجلات عربة محطمة، وراحت بندقية القناص تنتظر ظهورها، لترديها قتيلة.

لا، لم يكن هذا سؤالي، ولكن أي روح مترعة بعتمة الموت سكنت ذلك الكائن الذي توارى في بناء وراء فوهة الموت، وراحت قناصته تستجلي الضحية مطاردة روح الصبي، قبل جسده، بالطلقات. عزم وتركيز مثابران بذلهما القناص، بلا كلل، ليفوز بروح الصبي الذي راح يشد الطفلة نحوه لينجو بها، بينما الطلقات تخترق هواء مرورهما الزائغ وتئز مخفقة في إصابتهما.

دقيقة وست ثوان استغرقها المشهد، والآن يخيل إليّ أن 20 صفحة في كتاب سوف لن تكون كافية لوصف وقائع هذه المدة الزمنية الهائلة بما جرى فيها، وكيف جرى، ناهيك عن الدلالات التي تحملها كل ثانية مما عرضه المقطع، وبعضها يشير إلى تلك الروح البطولية التي ولدت في جيل من الأطفال السوريين الذين شهدوا نشوب الثورة، فالحرب ومآسيها، تحولوا خلال سنوات أربع دهرية إلى أشخاص يكبرون أعمارهم الغضة، بينما تظهر الحادثة صورة متطرفة لتلك الوحوش التي خرجت من صندوق باندورا السوري، وقد أطلّت من كهوف التاريخ مسوخ من البشر الذين فقدوا كل كرامة أو ضمير، إنهم مسوخ الطاغية الذين جرت تربيتهم على مدار ربع قرن من جنون الاستبداد، على احتقار الحياة والهزء بالكرامة الإنسانية، وعبادة الطغيان.

لا يستطيع رجال، مهما بلغوا من الحنكة والشجاعة، أن يغامروا بمصائرهم ليواجهوا بمثل هذا الانكشاف، وحش الموت، يصارعوه وينتصروا عليه، لا لينقذوا أنفسهم، ولكن ليستعيدوا الطفولة كلها من بين أنيابه. دقيقة واحدة وست ثوان تصلح أن تكون درساً فريدا تنحني له الإنسانية.