السبت 15 نوفمبر 2014 / 14:31

محمد خلف المزروعي: المستشار الذي صالح الثقافة على المجتمع



يخونني القلم، وتخذلني العبارة، كلما أردت الكتابة عن الصديق الراحل محمد خلف المزروعي، فأجدني في كل مرة متوقفاً عن الكتابة، مدركاً أن عدم قدرتي هذه مردها ليس فقط المحبة الغامرة التي تربطني به، مثلما ربطته بعشرات ومئات الإماراتيين والعرب، ولا خشية من أن يختلط الذاتي بالموضوعي، فمثل هذه الحدود تنمحي أمام شخصية بالغة الثراء والبساطة في وقت واحد مثل شخصية "بوخلف"، بل لأن الكتابة عن شخصية لها هذا الوزن والحضور والتأثير تغدو أشد تعقيداً، وبقدر ما تتيح لك هذه الشخصية الفذة من تبصّر إلا أن التبصّر هذا يفضي إلى استحالة الكتابة من نوع خاص، لاسيما وأن الراحل دأب على القول، وبما يشبه الوصية التي تنمّ عن شدّة تواضعه وفهمه الخاص والواسع لدوره وعمله "لا أريدكم أن تكتبوا عني، فكل ما أتطلع إليه أن تكتبوا عن الفعل والعمل إحياء لثقافتنا وتراثنا".

ومن هنا تصبح الكتابة عصية، لأننا في صدد شخصية آثرت أن تكون في أول الصف في رؤيتها المبادرة وعملها الخلاق الاستثنائي، وفي الوقت نفسه آثرت البعد عن الأضواء والبهرج المخادع والتبجح الفارغ، ذلك التبجح الذي أصبح وباء أصاب كثراً من العاملين بالشأن العام في عالمنا العربي.

إنني لأشعر الآن، مثل غيري، بالحيرة الشديدة، حيرة من يريد أن يكتب عن شخصية لم ترد يوماً أن يكتب عنها، رغم كلّ إنجازاتها ومبادراتها، لكن ما يشفع لنا جميعاً أن الكتابة في الحياة إن لم تكن مسوّغة في نظر المستشار وهو حي بيننا، فإن الكتابة عن المستشار محمد خلف المزروعي في رحيله الفاجع، تصبح ضرورة ملحة، وقوفاً عند الملامح الخاصة والمميزة والاستثنائية التي طبعت هذه الشخصية وتركت أثرها الكبير في حياتنا الثقافية والاجتماعية.

لقد مارس محمد خلف المزروعي عن جدارة دوره كمستشار للثقافة والتراث في ديوان ولي عهد أبوظبي، ليس بما حققه من إنجازات كبيرة على المستويات الثقافية والإعلامية والتراثية فحسب، وليس لأنه أخذ من الصقارة، الهواية الأولى التي عشقها، حدة الرؤية وبعدها، وليس لأنه استلهم من الثقافة عمقها وحيويتها، ومن التراث أصالته وعذوبته ومن الإعلام المبادرة والفعل الخلاق، بل لأنه أسس مثالاً ملهماً لنا جميعاً، وجعله ممكناً ومتاحاً باستمرار، وعلينا جميعاًأن نضعه نصب أعيننا وفاء له وإخلاصاً لسيرته النبيلة، ذلك بأن الثقافة، كما كان يؤمن بها، ليست كتلة نظرية منقطعة عن المجتمع، وليس المجتمع منعزلاً عنها، بل إنهما واحد لا يتجزأ، ولعل هذا ما جعله يدخل إلى الثقافة من باب المجتمع بل يصالح الثقافة على المجتمع والعكس، موحداً إياهما في روح واحدة مبدعة، منجزاً هدفاً لا يقدر كثر عليه، وهو أن يجعل الثقافة غير منقطعة عن فعلها الاجتماعي، وأن يكون النموذج الفذ الذي يقتدى به في إدارته للثقافة والإعلام والتراث وفي ولائه للوطن وحبه لأهله ولثقافتهم وتراثهم الأصيل.

ولعلّ من بين أكثر من وجب تقديم العزاء لهم، في هذه اللحظة القاسية، وأمام هذه الخسارة الفادحة، هو سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، الذي وبالإضافة إلى الصداقة العميقة التي ربطته بالراحل محمد خلف المزروعي، ربطته أيضاً به تلك النظرة الفريدة المشتركة إلى الثقافة والفعل الثقافي في علاقته بالمجتمع والتراث، ومن هناك كانت تلك الكيمياء الخاصة التي أنتجت بعض أفضل وألمع التجارب الثقافية المجتمعية في أبوظبي والإمارات والمنطقة عموماً.

إننا إذ نفتقد المستشار محمد خلف المزروعي فسنظل أوفياء لذاكرته التي لا تموت، ذاكرة فارس المبادرة وسادن الثقافة والتراث العصية على الغياب.

ومع ذلك، نجد أنفسنا، وكلما تذكرنا حجم الحضور الذي شكله الراحل العزيز، نكرر بغصة وحرقة: ما أقساك من غياب، وما أفدحك من خسارة.