الجمعة 21 نوفمبر 2014 / 00:27

حفني أفندي ملك التوك شو


انتهى حفني أفندي من محاضرته المطولة، مجَّ نفساً عميقاً من سيجارته السوبر وطوح ساقه النحيلة فوق الأخرى، وفق ما سمحت به المسافة بينه وبين "المِعلّمين" المتحلّقين حوله على طاولة المعلم عِتّش المعتادة في مقهى المدينة.

نفث الأفندي دخان سيجارته من أسفل لأعلى، وهو يختلس النظر في وجوه "المِعلّمين" مراقباً أثر كلماته عليهم، وحين استراح إلى أن العيون محدقة والأفواه فاغرة، فردَ ظهره إلى أن طقطق ظهرُ الكرسي الخرزان، ونطق عبارته الأخيرة. ويا ليته ما فعل.

كل ما حدث قبل تلك العبارة "كوم"، وما حدث بعدها كان كوماً آخر، كوم له طعم ولون مختلفان؛ فما كاد الأفندي ينهي عبارته التي يختتم بها عادةً عروضه البلاغية الساحرة، واثقاً من تأثيرها على هذه العينة من المستمعين، حتى بادره هذه المرة المعلم (عِتّش) بعبارة صارت مضرب الأمثال في المدينة لسنين لاحقة، عبارة مكونة من كلمتين اثنتين لا ثالث لهما، إلا أن السر الباتع لا علاقة له بعدد الكلمات، بل بمتى وكيف تقال.

ما إن تمطى الأفندي على كرسيه الخيزران مردداً عبارته المجربة، إلا وانطلق صوت المعلم عِتّش الجهوري العميق، بكلمتين كانتا كفيلتين بإطلاق شياطين سخرية لعينة، اجتهد المعلمون في حبسها في صدورهم، احتراماً لضيفه الذي انفرد لما يزيد عن ساعة بحديث متعال لا علاقة له بالحياة كما يعرفونها ويعاينونها بأنفسهم كل يوم.

بكلمتين اثنتين لا غير، أسقط المعلم عِتّش نسورَ الأفندي المحلقة في علياء ثقافته وحوّلها إلى أرانب تتقافز بحثاً عن مأوى تتواري فيه خجلاً من عيون اختبرت الحياة وجهاً لوجه.

كلمتان اثنتان، نطقهما بعفوية شديدة ولكن بإيمان عميق بما تعنيان.

ما إن أنهى حفني أفندي محاضرته بعبارته المفضلة: "عموماً يا جماعة دا رأيي المتواضع، وأكيد في ناس بتفهم أكتر مني في الموضوع"، إلا ولحقه المعلم عتش قائلاً: "مَلْيون مرة".

خرجت منه كلمة "مليون" -كما اعتاد أن ينطقها- بفتح الميم وتسكين اللام، فخيمة عميقة تستحق التقدير، (مَلْيون مرة) ما إن نطقها حتى انفرط الجميع في ضحك لم يحدد الرواة متى انتهى، إلا أنه -على حد رواية حسن القهوجي الذي كان لحظتها يقوم بتغيير حجر المعسل للمعلم برهامي الجالس على الطاولة نفسها- فإن الضحك ظل محلقاً على رواد المقهى كأنه عدوى، كلما صمتوا عادوا إليه على أتفه سبب، ولم يرحل الضحك من المقهى إلا برحيل آخر زبون حضر المشهد.

بعض الروايات تؤكد أن حفني أفندي لم يهنأ له بال حتى أطلق في المدينة إشاعة تفيد بأن المعلم عتش (راجل بطال)، ودليله على ذلك أنه لم يتزوج حتى الآن رغم أن أموره (متيسرة) وصحته كما يبدو للجميع (عال العال).

والحقيقة أن الناس في المدينة لم يكونوا في انتظار جهود حفني أفندي ليعرفوا ذلك عن المعلم عتش، فهم يعرفون أنه رجل فيه كل العبر، لكنه يحتفظ بعبره لنفسه ولا يفرضها على أحد، على عكس حفني أفندي الذي لا يفوت فرصة إلا وادّعى أنه لتفاصيلها فهيم وبأسرارها عليم.

وتذهب الروايات إلى أن حفني أفندي -بعدما فوت الناسُ عليه فرصة الشماتة في المعلم عتش- أدرك أنه لن يستقيم له الحال في بلد هكذا حالها، فلم يعد يظهر في الأماكن العامة، ولما لم يفتقده أحد كي يتفقده، لم تعد الروايات تذكر عنه شيئاً، عدا بعض تجار أكدوا أنهم صلوا خلفه الجمعة مرات في عدد من القرى المتطرفة التي يزورنها بين الحين والآخر لتحصيل ديونهم من صغار المزارعين، عرفوه رغم لحيته الطويلة وجلبابه القصير، كشفته علامته المميزة، فما زال يهوى الإفتاء في كل حقل، وما زال ينهي حديثه بجملته المشهورة مدعياً التواضع: (عموماً يا جماعة دا رأيي المتواضع، وأكيد في ناس بتفهم أكتر مني في الموضوع).

ثمة رواية وحيدة تؤكد أن حفني أفندي بعد أن اختفى من المدينة في أعقاب واقعة الـ(مليون مرة) ظهر مذيعاً لامعاً يقدم برنامج (توك شو) شهير في إحدى الفضائيات، وإن لم ينجح أحد حتى اليوم في تقديم دليل على صحة ذلك.