الخميس 18 ديسمبر 2014 / 11:03

حين تكون السياسة ألعاباً... لكنْ معقّدة



يحظى بعض الكتب بالقدرة على هزّ قناعات قائمة أو إثبات قناعات أخرى. ومن هذه الكتب كتاب "الجاسوس الصالح – حياة وموت روبرت آميس" لصاحبه الصحافيّ الأمريكيّ الذي سبق أن نال جائزة بوليتزر، كاي بِرد.

العمل هذا الذي صدر مطالع 2014، عن دار "كراون" للنشر في نيويورك، هو، كما يقول عنوانه الفرعيّ، سيرة لـ"الجاسوس" روبرت آميس الذي قضى في انفجار السفارة الأمريكيّة ببيروت عام 1983.

والحال أنّ الكتاب يساهم في تغيير تصوّرنا السائد حول "الجاسوس" بوصفه شخصاً سيّئاً بالضرورة وعديم القيم بالتعريف. فآميس، من بين قيم وقناعات أخرى تمسّك بها، لم يحدْ شعرة عن إيمانه بأهميّة التوصّل إلى حلّ عادل للمشكلة الفلسطينيّة. وهو لئن استند في موقفه هذا، والذي أصرّ عليه لسنوات مديدة انتهت بمقتله، إلى مقدّمات أخلاقيّة وإنسانيّة، فقد رأى كذلك أنّ مصلحة البلد الذي يخدمه، أي الولايات المتحدة، تستدعي حلاًّ كهذا.

لكنْ في المقابل، فكلّ من يردّد المحفوظات المألوفة عن التناسق والانسجام بين الولايات المتحدة وإسرائيل سيصدمه هذا الكتاب. فبسبب التدخّل المتواصل من آميس، كثيراً ما تولّى عناصر السي أي آي حماية القياديّ الفلسطينيّ أبو حسن سلامة من عناصر الموساد الإسرائيليّ. وعلى مدى صفحات يتبدّى أنّ الحرب بين جهازي المخابرات ظلّت محتدمة في موازاة الصراع الفلسطينيّ – الإسرائيليّ.

وبدوره فإنّ سلامة، البالغ القرب من ياسر عرفات، كان يملك تصوّراً شاركه فيه صديقه اللبنانيّ المتحمّس للقضيّة الفلسطينيّة مصطفى زين، ومفاد هذا التصوّر أنّ على الفلسطينيّين أن يكسبوا ودّ الولايات المتّحدة بهدف توسيع الفجوة بينها وبين إسرائيل. ولهذا السبب لم يتورّع هؤلاء عن تبادل المعلومات مع الجهاز الاستخباريّ الأمريكيّ، رافضين دائماً تلقّي أموال أمريكيّة مقابل خدماتهم تلك. ويبدو أنّ هذه الآراء لم تقتصر على أفراد في حركة "فتح" أو في أجوائها، إذ شاطرهم إيّاها آخرون بارزون في "الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين" كالباحث العراقيّ باسل الكبيسي.

لكنْ لئن بدا لوهلة أنّ الآراء المذكورة قابلة للدحض وربّما للتسخيف، فإنّ إسرائيل لم تتعامل معها بوصفها هكذا. فهي، بذريعة تصفية مهندسي عمليّة ميونيخ في 1972 والتي نفّذتها منظّمة "أيلول الأسود" بحقّ الفريق الرياضي الإسرائيليّ، اغتالت الكبيسي الذي لم تكن له أيّة علاقة بميونيخ، ثمّ اغتالت سلامة الذي ربّما كانت له علاقة ثانويّة بالعمليّة. بيد أنّ الإسرائيليّين لم يقدموا على تصفية أبو داوود، علماً بأنّه الشخص الذي ترتبط به العمليّة شخصيّاً. ولا يستطيع المتابع إلاّ أن يستنتج أنّ الإسرائيليّين، وباسم الانتقام لضحايا ميونيخ، كانوا يصفّون كلّ فلسطينيّ يقيم جسراً مع وجه نافذ في الولايات المتّحدة.

لكنّنا، وفي سياق الكتاب، نعرف مثلاً أنّ محمّد بهشتي، الذي ظلّ حتّى اغتياله مطالع الثمانينات أقرب المقرّبين من آية الله الخميني، إنّما اضطلع بدور أساسيّ في التخلّص من موسى الصدر في ليبيا. كذلك نفهم أنّ بشير الجميّل، وفي ذروة الصراع بينه وبين المنظّمات الفلسطينيّة، كان يرسل إلى سلامة من ينبهّه إلى وجود خطط إسرائيليّة لاغتياله، خططٍ أتيح للجميّل أن يعرفها بفعل علاقاته بالإسرائيليّين. أمّا عماد مغنيّة، القياديّ اللاحق في "حزب الله"، فنتعرّف عليه في مطلع شبابه واحداً من الحرّاس الشخصيّين لياسر عرفات، جنّده سلامة لهذا الدور. لا بل يجزم الكتاب بأن مغنيّة كان إلى جانب عرفات في مخبئه إبّان الاجتياح الإسرائيليّ للبنان في 1982. وأمّا الذي رعى الحوار غير المباشر بين عرفات وفيليب حبيب، المندوب الأمريكيّ إلى لبنان أثناء الاجتياح، فلم يكن سوى رجل الأمن اللبنانيّ جوني عبده. فحبيب كان مضطرّاً إلى التواصل مع عرفات، لكنّه كان يعرف أنّ الإسرائيليّين لن يقبلوا أيّ حوار مباشر بين رسميّ أمريكيّ والقائد الفلسطينيّ. هكذا أسكن عبده الاثنين في بناية واحدة فكان كلّ منهما يقيم في طابق منها، وبين طابقيهما كان يتحرّك الرسل بأسئلتهم وإجاباتهم.

والحقّ أنّ بعض الأمور التي يتناولها الكتاب وتبدو أشبه بالألعاب إنّما تنمّ عن تعقيد كثيراً ما يجافي فهمنا البسيط للسياسة.