الخميس 18 ديسمبر 2014 / 15:36

استعراض صغير في ميدان الجندي المجهول في غزة



يمشي الشاب في الممر الضيق المحاط بسياج من نباتات الحدائق، بينما كاميرا "الآي فون" تلاحقه.

يمشي الشاب عارياً تماماً بجسد متصلب كأنه خارج لتوه من كابوس، غير مكترث لصيحات السخرية التي يطلقها حامل الكاميرا اللحوح الذي يلاحقه، الصوت يشير إلى شخص آخر يرافق صاحب "الآي فون"، بينما تهتز الكاميرا وتتبدل زاوية العدسة فتظهر مساحة أوسع من السياج والممر المبلط الذي يبدو نظيفاً ومعتنى به.

الضوء، أيضاً، يشير الى أن الوقت هو صباح من صباحات غزة، وقلة الناس تشير إلى أنها ساعة مبكرة في هذه الصبيحة.

يقطع الشاب العاري الممر بثقة ومن المكان المخصص للمشاة دون أن يلتفت، لتنفتح عدسة الكاميرا وتظهر أجزاء من المشهد المألوف لميدان الجندي المجهول في وسط مدينة غزة.

يمشي الشاب بجسده المشدود مثل آلة قديمة، يمشي من كتفيه في شارع شبه خال وفي وضح الضوء، بينما يواصل حامل "الآي فون" مطاردته بخفة وهو يناديه:
- يا "رامبو"

تأكد الآن أن هناك شخص آخر يضحك خلف الكاميرا.

والشاب لا يكترث، الشاب خارج العالم وخارج العدسة وبعيداً عن مرمى الصوت الساخر والضحك العالي للشخص الآخر، يبدو مستغرقاً في حيادية خاصة تعزله عن العالم تماماً، وثمة تقطيبة جادة يمكن ملاحظتها حين تقترب الكاميرا في لقطة جانبية، الكاميرا التي نجح تماماً في تجاهلها.

 في المدى البعيد للقطة يظهر ثلاثة أشخاص، غير مقصودين غالباً، وهم يراقبون المشهد بهدوء ولا مبالاة واضحة رغم بعد اللقطة، ربما بشيء من الأسى أو التعاطف.

عدت للشريط مرات كثيرة، وفي كل مرة كان يتراكم أمامي مصير غزة بعد ثمانية سنوات من انقلاب الإخوان المسلمين على منظمة التحرير الفلسطينية، وبعد ثلاثة "انتصارات"، في الأقل، بما فيها "الانتصار" الأخير الذي ما زلنا نحتفل به، وبعد "المصالحة".

سيخبرني أحد "الوكلاء" أنه، الشاب، مضطرب عقلياً، وأنه معروف في المنطقة ولا داع لتحويل المشهد إلى نوع من "الدراما"، وسيتصل بي صديق ليؤكد لي أن المشهد واقعي رغم مأساويته، وأنه أحد أعراض غزو الحبوب المخدرة لقطاع غزة، والتي يجري توزيعها وبيعها على نطاق واسع وشبه معلن في مناطق القطاع، سيذكر الصديق أسماء وأنواع يمكن لأي شخص الحصول عليها بسهولة، وبـ "أسعار مناسبة" مع خدمة "التوصيل" للمدرسة أو المقهى، فيما دوريات حماس المعنية بـ "الأخلاق" تجوس الشوارع والمقاهي والشاطىء، تواصل بحثها الدؤوب عن نساء غير محجبات، أو محجبات يضعن "ساقاً على ساق" أو يدخنّ أو يمشين قريباً من ذكور غير محرمين، أو ذكور يقتربون منهن لا يحملون وثائق الزواج المختومة من المحاكم الشرعية.

يمشي الشاب في استعراضه الذاهل دون أن يرفع علماً يشير الى فصيله، دون أن يرفع العلم الوطني، يواصل المشي ملاحقاً من صاحب "الآي فون" وصديقه.

يمشي كأنه ولد ليفعل ذلك بالضبط، وهنا في ميدان "الجندي المجهول" في غزة تماماً.

يمشي بعيداً عن الاحتفالات التي لا يسمع هديرها في شارع "عمر المختار" أو ساحة "الكتيبة" أو مفترق "السرايا"، دون أن يهتم باستعراض السلاح، الذي يعبر تحت نوافذ البيوت المهدمة والأجساد المدفونة، دون أن يأخذ بجدية مفترضة حديث "الطائرة بدون طيار"، وجرعات التنفس الصناعي التي تطلقها شبكات إعلامية وفضائيات يظهر فيها مذيعون منفعلون لتأبيد حكم الإخوان المسلمين لغزة وشرعنته.

دون أن يتأثر بإشارة الشيخ "هنية" لـ "جنود الكوماندوز البحرية"، أو باجتماع الشيخ "الزهار" مع اسحق رابين، أو بـ "المصالحة".

يمشي في استعراضه الخاص العميق، المؤلم أمام عري شامل يغطينا هنا وهناك.

في استعراض وحيد يشبهنا.