السبت 10 يناير 2015 / 20:30

التكلفة الدموية والاقتصادية بالأرقام (3)

تكشف نظرة سريعة اليوم إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بجلاء عن صورة شديدة التباين, حيث عانت كل من سوريا والعراق وليبيا، ولا تزال تعاني حالياً, صراعات عنيفة أحدثت خسائر واسعة في الأرواح و البنى التحتية والاقتصادات الوطنية, وما إلى ذلك من آثار غير مباشرة في البلدان المجاورة الأردن ولبنان, كما تمر تونس ومصر واليمن حالياً, بمرحلة تحول سياسي حافلة بالتحديات والمصاعب أدت إلى تباطؤ معدلات النمو الاقتصادي, وتفاقم الاختلالات على صعيد الاقتصاد الكلي.

وقد شهدت المنطقة العربية منعطفاً سياسياً خطراً بات يعرف بـ "الربيع العربي", وهو مصطلح أطلق على الأحداث التي أطاحت حكم زين العابدين بن علي في تونس وحسني مبارك في مصر والعقيد معمر القذافي في ليبيا, وعلي عبدالله صالح في اليمن.

وقد تسبب "الربيع العربي" بصورة مباشرة بدمار وانهيار اقتصادي في المجالات كافة, حيث أن خسائر الدول العربية التي تعرضت لموجات الثورات قدرت بالمليارات, فلم يحقق ذلك "الربيع", أياً من أهدافه التي أعلنت حينه, وإنما أصبحت تلك الدول تشهد حروب ميليشيات تدعم كلاً منها جهة إقليمية أو دولية.

وقد سبق ان قدر "البنك الدولي" تكلفة أعمال العنف في مصر و تونس وسوريا واليمن وليبيا, وآثارها غير المباشرة, بنحو 168 مليار دولار خلال الفترة بين عامي 2011 و 2014, أي ما يعادل 19% من إجمالي الناتج المحلي لهذه الدول, فقد أثرت الصراعات في أكثر من 10 ملايين شخص في أنحاء المنطقة.

النازحون السوريون
أشارت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين , في بيان إلى أن سوريا باتت في صدارة دول العالم لجهة النزوح القسري, بعد مرور ثلاث سنوات على اندلاع النزاع فيها، محذرة من ازدياد عدد اللاجئين السوريين في غياب أي تقدم في الحل السياسي للأزمة السورية.



واكدت المفوضية ان أكثر من تسعة ملايين سوري "اقتِلعوا من منازلهم". و أوضح البيان أن العدد الإجمالي للنازحين من منازلهم, سواء داخل سوريا أو خارجها, تجاوز 40% من السكان, نصفهم من الأطفال. وأضاف أن أكثر من 2.5 مليون مواطن سوري تم تسجيلهم أو ينتظرون التسجيل كلاجئين ونازحين في البلدان المجاورة بسوريا, مشيراً إلى أن أكثر من 6.5 مليون سوري هم لاجئون ونازحون داخل سوريا.

وأوضح البيان أن "لبنان وحده بات يستقبل نحو مليون نازح سوري مسجلين لدى المفوضية“, مشيراً إلى احتمال ارتفاع هذا العدد إلى 1.6 مليون نازح في نهاية عام 2014 في حال استمرار الاحوال على ما هي عليه". ولفت الانتباه إلى أن لبنان يسجل حالياً أعلى نسبة كثافة نازحين في العالم في التاريخ الحديث مقارنة بعدد السكان, مع وجود نحو 230 نازحاً سورياً مسجلين مقابل كل 1000 لبناني, أي أكثر من 70 ضعف عدد اللاجئين نسبةً إلى عدد السكان في فرنسا, ومن 280 ضعف عدد اللاجئين نسبة غلى عدد السكان في الولايات المتحدة الأمريكية". وأضاف أن "عدد النازحين السوريين المسجلين والمقيمين حالياً في لبنان سيكون نحو 19مليون لاجئ لو كانوا في ألمانيا, وأكثر من 73 مليوناً لو كانوا في الولايات المتحدة الأمريكية".



وأشار إلى أن الأردن يرزح بدوره تحت وطأة وجود اللاجئين السوريين, مشيراً إلى ان "التكاليف المتصلة بهذا النزوح تقدر بما يزيد على 1.7 مليار دولار أمريكي". وأضاف: "في هذا البلد الفقير بموارده تدفع الحكومة مئات الملايين على شكل إعانات إضافية لضمان حصول النازحين على مياه والخبز والغاز والكهرباء بأسعار معقولة"، لافتاً النظر إلى أن "هذا أدى إلى ارتفاع كبير في طلب الرعاية الصحية , ونقص في الأدوية و كميات المياه الصالحة للشرب المتاحة للأردنيين والنازحين, خصوصاً في شمال الأردن".

وذكر بيان المفوضية أن كثيراً من السوريين يسعون "إلى التماس الأمان في الأمريكيتين وأستراليا, وذلك عن طريق الوسائل الشرعية وير الشرعية على حد سواء", مشيراً إلى أن البرازيل, التي تضم جالية كبيرة من اصول سورية, عمدت إلى إصدار تأشيرات عاجلة للسوريين عام 2013, ما ساعد عدداً منهم على إيجاد ملجأ آمن هناك.

وتعد التكلفة البشرية للصراع الذي طال أمده باهظة إذ لقي أكثر من 200 ألف شخص حتفهم, و أصيب أكثر من 680 ألفاً بجروح, ونزح داخلياً 6.5 مليون على الأقل, فيما لجأ نحو 2.5 مليون شخص إلى بلدان أخرى, وذلك بحسب أرقام الأمم المتحدة.



الخسائر العسكرية
إن أهم خسارة تكبدتها دول "الربيع العربي" كانت بتدمير جيوش تلك الدول, فالجيش المصري منشغل في حفظ الأمن الداخلي والحدود وحرب الاستنزاف مع جماعة "الإخوان المسلمين", والجيوش اليمنية والعراقية والسورية والليبية دُمرت, أو كادت تُدمر, بانشغالها بضبط أمنها الداخلي ضد إرهاب الجماعات المتشددة والنزاعات الطائفية, التي أدّت إلى خسارة كبيرة في أفراد تلك الجيوش, ودمار جزء مهم من ترساناتها العسكرية.

الخسائر الطبية
كانت الخسائر الطبية في دول "الربيع العربي" كبيرة جداً, حيث دُمرت البنى التحتية الطبية لكثير من المستشفيات والعيادات, كما دُمر أكثر من 60% من تلك المنشآت الطبية, بحسب بيان مشترك صدر في منتصف ديسمبر (كانون الأول) 2013 عن الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية, حيث تفيد الأرقام أن أكثر من 100 ألف طبيب هاجروا من سوريا والعراق إلى دول غربية, ووفقاً لمركز توثيق الانتهاكات, فإن أكثر من 160 طبيباً قتلوا, ويقبع نحو 500 من العاملين في القطاع الطبي في سجون النظام السوري. وفي ليبيا, عادت الدولة الليبية إلى عصور الظلام , حيث بات المسلحون يتحصنون في المباني التعليمية والمستشفيات, ما أسفر عن تدمير شامل لتلك المنشآت.

تراجع قيمة العملات
عندما يحدث انخفاض قيمة العملة ما في نظام سعر الصرف الثابت, فقد لا تستطيع السلطات المالية المحددة لسعر الصرف الدفاع عته على المدى المتوسط او الطويل, وتتعهد هذه السلطات في إطار نظام صرف ما بضمان تحويل العملة مقابل العملة المرجعية, وللقيام بذلك يجب على الدول أن تملك احتياطي نقد أجنبي, لكن في حالة وجود طلب كبير على العملة الأجنبية ونقص في الاحتياطي, يجب على البنك المركزي إيقاف عملية صرف العملة مقابل عملة مرجعية والتخفيض من قيمتها, وعادة في الظروف الاستثنائية والتوترات السياسية تخفض السلطات المالية قيمة العمة كخطوة وقائية تخوفاً من نفاد احتياطاتها من النقد الأجنبي.

ومن الأسباب الرئيسية لتراجع احتياطي هذه الدول نقص دخل قطاعات عدة مهمة من العملات الأجنبية, وفي مقدمتها قطاعا السياحة والاستثمار, وتراجع تحويلات العاملين في الخارج وقيمة الصادرات, وتباطؤ النمو.

وقد تعرضت عملات دول "الربيع العربي", وفي مقدمتها السورية والمصرية واليمنية والتونسية, لخسائر جسيمة, إضافة إلى خسائر الدينار العراقي والجنيه المصري. وتجاوزت خسارة الجنيه المصري منذ بداية الثورة 30%, بحيث قفز سعر صرف الدولار في السوق السوداء إلى 7.5 جنيه, بينما انخفض سعر صرف الليرة السورية إلى 190 ليرة مقابل الدولار. واللافت للانتباه أن العديد من دول "الربيع العربي" وضعت قيوداً على تحويل العملات الصعبة إلى الخارج خوفاً من هروبها, وبالتالي استنزاف احتياطي البلاد من هذه العملات, وأثرت هذه القيود سلبياً في المستثمرين بهذه الدول.

ويعكس تراجع أسعار صرف عملات هذه الدول بصورة عامة تراجع احتياطاتها من العملات الأجنبية, مع العلم أن عدم الاستقرار السياسي والأمني من الأسباب الرئيسية لتراجع احتياطيات هذه الدول، بسبب تراجع تحويلات العاملين في الخارج, وتراجع قيمة الصادرات, وتباطؤ النمو.

" داعش" مصدر خسارة
يتصدر تنظيم "داعش" حالياً قائمة أغنى التنظيمات الإرهابية في العالم, حيث كشفت صحيفة" هفينغتون بوست" الأمريكية عن أن عملية السطو على البنك المركزي في الموصل أسفرت عن نهب 500مليار دينار عراقي, أي ما يعادل مليون دولار, فضلاً عن ان التنظيم تمكن من السيطرة على مناطق عدة في العراق.



ونقلت صحيفة "انترناشونال بيزنس تايمز" تصريحات إعلامية لمحافظ نينوى, أثيل النجفي "أن مسلحي داعش استولوا على الملايين من بنوك أخرى في المنطقة أيضاً, إلى كميات كبيرة من السبائك الذهبية".

وأشار تقرير, صدر مؤخراً عن مكتب "IHS" الاستشاري الأمريكي, إلى أن عوائد الإنتاج النفطي تنظيم "داعش" تقدر بنحو 800 مليون دولار سنوياً, أي نحو مليوني دولار باليوم, و ذكر التقرير أن التنظيم قادر على تحقيق عائدات كبيرة حتى لو أنتج جزءاً صغيراً من النفط في المنطقة الخاضعة له, وباعه بأسعار متدنية في السوق السوداء.

وأوضح التقرير أن تنظيم "داعش" يسيطر على منطقة يبلغ إنتاجها 350 ألف برميل يومياً, مشيراً إلى أن التنظيم لا ينتج أكثر من 50-60 ألفاً, وأنه يبيع إنتاجه في السوق السوداء لاحقاً بسعر يتراوح ما بين 25 و60 دولاراً للبرميل, أي بمعدل 40 دولاراً, وهذا السعر أقل كثيراً من الأسعار المعتمدة في الأسواق الدولية.

خاتمة
تحتاج دول "الربيع العربي" إلى أكثر من 500 مليار دولار لإعادة الإعمار, نظراً إلى هروب مئات المليارات من تلك الدول. ولعل أهم القطاعات التي تحتاج إلى تمويل هي قطاعات السياحية والبنى التحتية من منشآت تعليمية ومستشفيات ومصانع. والأهم هو بناء اقتصادات عقب انهيار الكثير من دعائم تلك الدول, إضافة إلى إعادة تسليح جيوشها, إذ استنزفت قواتها في حروب لا طائل منها.

وقد تعهدت الدول الغربية بدعم دول "الربيع العربي" من خلال تقديم مساعدات مالية إلى هذه الدول، تساعدها على تعويض الخسائر التي تعرضت لها, غير أن أياً من هذه المساعدات المالية لم تصل إليها حتى الآن. وفي هذا الصدد كانت دول مجموعة "الثماني" ومؤسسات مالية دولية قد تعهدت خلال عام 2011 بدعم عدد من دول "الربيع العربي, ففي أواخر مايو (أيار) 2011 اقرت مجموعة "الثماني", في قمتها المعقودة في مدينة "دوفيل" الفرنسية, تقديم دعم إلى تونس ومصر, بقيمة 20 مليار دولار, إلا ان المؤسسات الدولية قررت بعد ذلك مضاعفة المبلغ إلى 40 مليار دولار, على أن تتم توسعة المبادرة لتشمل الأردن والمغرب أيضاً, إضافة إلى دعوة "المجلس الانتقالي الليبي".

وفي خطوة أخرى تم رفع المبلغ غلى نحو 80 مليار دولار ضمن مبادرة شراكة تهدف إلى مساعدة دول "الربيع العربي" على تجاوز تداعيات الثورات والاحتجاجات الشعبية التي شهدتها عام2011, وفي هذا الإطار أعلن وزير المالية الفرنسي, فرانسوا باروان, خلال مؤتمر صحافي عقده في ختام اجتماع لوزراء مالية مجموعة "الثماني" بمدينة مرسيليا نظم أوائل أكتوبر (تشرين الأول) 2011, أن المؤسسات الدولية تعهدت بتقديم 40 مليار دولار, على شكل قروض ميسرة, إلى كل من تونس ومصر والأردن والمغرب, اعتباراً من عام 2011 حتى عام 2013, على أن تقدم دول المجموعة مساعدات بالقيمة نفسها في إطار ثنائي مع هذه الدول. غير أن هذه المساعدات لم تصل إلى دول "الربيع العربي" حتى الآن, وفي هذا الصدد نشرت صحيفة "لوموند دبلوماتيك" مقالاً انتقدت فيه خطط مواجهة تداعيات "الربيع العربي", وقالت "إنها بلا غد".

واستشهدت الصحيفة بما يحدث في تونس وليبيا وسوريا ومصر. و أضافت أن تصديق دول "الربيع العربي" وعود الغرب بتقديم المساعدات كان مجرد أوهام. وأشارت الصحيفة إلى أنه لا شيء من هذه المساعدات المالية وصل إلى هذه الدول.