الثلاثاء 9 أبريل 2013 / 14:38

هو وأمه

قرن الله سبحانه وتعالى حقه بحق الوالدين في أكثر من موضع من القرآن الكريم، فقال تعالى: "وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا" الإسراء.

وجعل البر بهما سبباً لدخول الجنة، ففي الحديث الصحيح الذي رواه أبو هريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "رغم أنفه، رغم أنفه، رغم أنفه" قيل: من يا رسول الله؟ قال: "من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كليهما ثم لم يدخل الجنة".

ولما كانت الآيات والأحاديث تدل على مكانة وفضل الوالدين بشكل عام، فإن الأم قد خصت بأحاديث أخرى تبين عظيم حقها بشكل خاص، وما ذاك إلا لكثير تحملها من متاعب الحمل والولادة والتربية، فهي أحق الناس بالصحبة.

تأملت حال كثير ممن وفقوا لبر والديهم، فوجدت أن عملهم الذي يقومون به يسير، وأن الجهد الذي يبذلون للوصول لرضاهم سهل، وأيضاً يبعث في النفس السرور، فهم لا يحملون الكثير من المشقة أو عظيم العناء، إنما يحملون بشكل دائم مستمر قلوباً فطنة ووجوهاً مبتسمة.

في إحدى القصص التي روتها طبيبة لدى زيارة شاب برفقة أمه لها تقول فيها: "دخلت علي في العيادة امرأة في الستينات بصحبة ابنها الثلاثيني، فلاحظت حرصه الزائد عليها، يمسك يدها ويصلح لها عباءتها، بعد سؤالي عن المشكلة الصحية وطلب الفحوصات، سألته عن حالتها العقلية لأن تصرفاتها لم تكن موزونة ولا ردودها على أسئلتي فقال: إنها معاقة ذهنياً منذ الولادة، فتملكني الفضول فسألته: من يرعاها؟ قال: أنا. قلت: ومن يهتم بنظافة ملابسها وبدنها؟، قال: أنا أدخلها الحمام ،أكرمكم الله، وأحضر ملابسها، وأنتظرها إلى أن تنتهي وأصف ملابسها في الدولاب، وأضع المتسخ في الغسيل وأشتري لها الناقص من الملابس! قلت: ولم لا تحضر لها خادمة؟ قال: لأن أمي مسكينة مثل الطفل لا تشتكي وأخاف أن تؤذيها الشغالة".

دهشت لكلامه ومقدار بره، فسألته هل أنت متزوج؟ قال: نعم، الحمد لله ولدي أطفال.

قلت: "إذاً زوجتك ترعى أمك؟ قال: إنها لا تقصر وهي تطهو الطعام وتقدمه لها، وقد أحضرت لزوجتي خادمة حتى تعينها، ولكن أنا أحرص أن آكل معها حتى أطمئن لأجل السكر".

زاد إعجابي ومسكت دمعتي. اختلست نظرة إلى أظافرها فرأيتها قصيرة ونظيفة، قلت: "أظافرها؟ قال: أنا، يا دكتورة هي مسكينة".

نظرت الأم لولدها وقالت: متى تشتري لي بطاطس؟ قال: أبشري الحين أوديك البقالة! طارت الأم من الفرح وقالت: الحين، الحين. التفت الابن لي وقال: والله إني أفرح لفرحتها أكثر من فرحة عيالي الصغار.

تقول الطبيبة أنها تظاهرت حينئذ بالانشغال في ملفها لتخفي تأثرها ثم عادت تسأله: "ما عندها غيرك؟، قال: أنا وحيدها لأن الوالد طلقها بعد شهر، قلت: هل رباك أبوك؟" قال: لا جدتي كانت ترعاني وترعاها وتوفيت الله يرحمها وعمري عشر سنوات، قلت: هل رعتك أمك في مرضك أو تذكر أنها اهتمت بك، أو فرحت لفرحك أو حزنت لحزنك؟ قال: يادكتورة .. أمي مسكينة من عمر عشر سنين وأنا شايل همها وأخاف عليها وأرعاها".

كتبت الوصفة وشرحت له الدواء، ثم أمسك يد أمه، وقال: "يللا الحين البقالة".

قالت: "لا نروح مكة!"

استغربت الطبيبة وقالت: لماذا؟

فأجابتها: "بركب الطيارة".

سألة الطبيبة الرجل: بتوديها مكة؟. فرد بالإيجاب.

فقالت الطبيبة: "هي ما عليها حرج لو لم تعتمر، ليه توديها وتضيّق على نفسك؟، فقال: يمكن الفرحة اللي تفرحها لو وديتها أكثر أجراً عند رب العالمين من عمرتي بدونها".

تقول الطبيبة: "خرجا من العيادة فأقفلت الطبيبة بابها وقلت للممرضة أحتاج للراحة، ثم بكيت من كل قلبي، وقلت في نفسي: هذا وهي لم تكن له أماً، فقط حملت وولدت، لم تربِّ، لم تسهر الليالي، ولم تُدرسه، ولم تتألم لألمه، لم تبك لبكائه، لم يجافها النوم خوفاً عليه، لم، ولم، ومع كل ذلك كل هذا البر".

جميل هو رد الجميل للغرباء، ولكل من قدم لك جميلاً في يوم من الأيام فكيف برد الجميل لمن يقدمه لك قبل وصولك هذه الدنيا وطيلة حياتك، هناك الكثير من الأساليب والطرق.

ما أجمل بر الوالدين، إنها نعمة إذا رضي الله عن عبده رزقه بر والديه، وأسأل الله أن يعيننا جميعاً على المحبة، وأن يجمعنا وإياهم في الفردوس الأعلى، وأن يكتب الله لنا من لطفه، حب العطف عليهما والبر بهما.