الجمعة 30 يناير 2015 / 18:14

أبعد من انتصار "سيريزا"



أثار فوز حركة "سيريزا"، الائتلاف اليساريّ – الشعبويّ، في الانتخابات النيابيّة اليونانيّة، فرحاً مؤكّداً ومُحقّاً عند أوساط عدّة.

ذاك أنّ ملايين الذين دفعوا أكلاف قسوة الاستدانة الدوليّة وسدادها، في اليونان وخارجها، سرّهم هذا الانتصار على سياسة التقشّف، وتلك الصفعة التي تلقّتها مؤسّسات التقشّف العديمة الرحمة. كذلك فأن تعبّر النزعة الشعبويّة عن نفسها من خلال انتصار أحزاب اليسار أفضل من أن تجد تعبيرها عبر فوز أحزاب اليمين الفاشيّ والعنصريّ، لا سيّما حزب كـ "الفجر الذهبيّ" البالغ التطرّف.

لكنّ "سيريزا"، وبسرعة نسبيّة، خيّبت آمالاً يجوز وصفها بالمبالغة والانفعال. فالذين انتظروا تحوّلاً "اشتراكيّاً" يبدأ في اليونان، ما لبثوا أن فوجئوا بالاتّفاق الذي عقدته "سيريزا" مع حزب "المستقلّين اليونان" لتشكيل ائتلاف حكوميّ يحظى بالأكثريّة. وهذا مع العلم بأنّ "المستقلّين اليونان" يُعَدّون من القوميّين اليمينيّين المناوئين للهجرة والمقرّبين من الكنيسة الأرثوذكسيّة، والذين لم يحتملوا "اعتدال" حزب "الديمقراطيّة الجديدة" الذي يمثّل المتن العريض لليمين التقليديّ فانشقّوا عنه في 2012.

إذاً، ما هو القاسم المشترك بين حركة "سيريزا" (149 نائباً في البرلمان الجديد) وحزب "المستقلّين اليونان" (13 نائباً)؟

إنّه العداء لسياسات التقشّف. وقاسم مشترك أوحد كهذا كفيل، على أهميّته، بأن يزيل عن الائتلاف اليساريّ صورته التغييريّة الكبرى فيما يعزّز، في المقابل، صورته كطرف شعبويّ يعبّىء حول مسألة موضعيّة. فالراهن اليوم، وبحقّ أو من دون حقّ، أنّ مناهضة المؤسّسات الدوليّة وسياساتها و"إملاءاتها" غدت أهمّ ما يعرّف الحركات الشعبويّة الأوروبيّة التي تشكّل بروكسيل، عاصمة الاتّحاد الأوروبيّ، شيطانها الرجيم. وفي حالة اليونان تحديداً، انضافت برلين إلى بروكسيل، بوصفها المقرض الأوّل لليونانيّين.

لكنّ المسألة تتعدّى حركة "سيريزا"، بل تتعدّى في آخر المطاف اليونان نفسها، طارحةً مسألة الشعبويّة وصعودها كما تعبّر عن ذلك حركات كـ "الجبهة الوطنيّة" في فرنسا أو "حزب استقلال المملكة المتّحدة" (يوكيب) في بريطانيا وسواهما في بلدان أخرى. وهنا تبدو الفوارق بين يمين ويسار أضعف من تلك التي تفصل بين الشعبويّين عموماً والقوى المؤسسيّة التقليديّة. فالأخيرة غدت، منذ سنوات لم تعد قليلة، تسجّل تراجعاً ملحوظاً في التأثير يجسّده، على نحو خاصّ، انحسار العضويّة في أحزاب المتن العريض بيمينه ويساره سواء بسواء. وإلى ذلك هناك انكماش نُسب التصويت في الانتخابات النيابيّة العامّة، لا سيّما في أوساط الشبيبة التي يستغرقها التعبير من خلال وسائط التواصل الاجتماعيّ أو عبر قضايا المجتمع المدنيّ وشبكاته. وهذا إنّما يضعنا وجهاً لوجه أمام أزمة تضرب الديمقراطيّة الأوروبيّة بمجمل مؤسّساتها ومرتكزاتها.

في سياق كهذا، ربّما جاز القول إنّ أسبقيّة بلد كاليونان في إيصال حركة شعبويّة إلى السلطة، مع أنّ "سيريزا" ليست أسوأ الشعبويّات كما ذُكر قبلاً، تنمّ عن أسبقيّة اليونان في إعلان الإفلاس الذي انتهت إليه حياتها السياسيّة بحزبيها التقليديّين، "بازوك" الاشتراكيّة و"الديمقراطيّة الجديدة" اليمينيّة، فضلاً عن الإفلاس الاقتصاديّ المطنطن.

وفي هذا المعنى سيبدو من التسرّع افتراض الخلاص عن طريق مناهضة التقشّف، مثله في ذلك مثل الافتراض بأنّ الامتثال للتقشّف يوفّر الخلاص المرجوّ. فهناك، في النهاية، أزمة أوروبيّة عامّة تمثّل اليونان راهناً موقعها المتقدّم الذي جاءت أزمة 2008 الماليّة لتظهّره وتدلّ إليه.