الجمعة 30 يناير 2015 / 21:37

فاتن حمامة.. وداعا يا غرامي


رحلت "فاتن حمامة" الفتاة التي كانت بنت الجيران تشبهها، أو هكذا خيل إلىّ فأحببتها من طرف واحد، ولأن الاحتفاظ بصورة حبيبة القلب، لم يكن ممكناً في ذلك الزمان الذى استقبل فيه جيلنا مراهقته الأولى، فقد اشتريت عشرات من صور "فاتن حمامة" الفوتوغرافية التي كانت تباع بنصف قرش أمام أبواب دور سينما الدرجة الثالثة، وعلقتها على جدران غرفتي، لأستعيض بتأمل ملامح وجهها البريئة والرومانسية، عن ملامح الفتاة التي أحببتها، والتي لم تكن تقاليد زماننا تتيح لي أن اقترب منها أو أتحدث إليها أو أدقق النظر في ملامحها، وحين التقيتها صدفة بعد سنوات طويلة، وأتيح لي أن أتعرف على ملامحها الحقيقية، أدركت أن المشابهة الطفيفة بينهما في الملامح تفتقد إلى ذلك السحر الغامض الذى كان يشع من كيان فاتن حمامة ويجذب إليها كل من رآها، وأنني كنت أخدع نفسى حين توهمت أنهما نفس الفتاة، وأن التي أحببتها هي فاتن حمامة وليست بنت الجيران.

في ذلك الزمن البعيد السعيد، كنت ما أكاد أعود من قريتي إلى القاهرة في مطلع الخريف، لكى استأنف دراستي حتى يتكاثف إحساسي بالوحدة والغربة، وأفزع من أن أبيت ليلتي وحيداً في هذه المدينة المزدحمة بالسيارات وعربات الترام ونداءات الباعة ولافتات المحال، والتي لم أكن قد ألفت بعد، لهجة سكانها أو تقاليدهم، لذلك كنت أحرص على أن أصل إليها في وقت يتيح لي أن ألقي بمتاعي في المنزل، ثم انطلق إلى واحدة من دور السينما التي تحيط بالمنزل، لأبحث عن فيلم من الميلودراميات التي كانت "فاتن حمامة" تقوم ببطولتها، ليتحول إحساسي بالغربة والوحدة إلى دموع غزيرة، تسيل في الظلام، وأنا أتابع المعركة الباسلة، التي تخوضها الفتاة الطيبة البريئة "نعمت" - وهو الاسم الذى كان مخرج الروائع الميلودرامية حسن الإمام يطلقه على بطلات أفلامه تيمناً باسم زوجته - لكى تواجه كل شرور الدنيا التي تحيط بها وتتآمر عليها، وحين ينتهى الفيلم بانتصارها، أصفق بحرارة مع رواد الترسو لأنها استطاعت - على الرغم من ضعفها وقلة حيلتها وهوانها على الناس - أن تنتصر على وحوش الغابة وأشرار الدنيا، حتى أشعر براحة عميقة وأتخفف من إحساسي بالضياع والوحدة، وتزول عنى الكآبة فأعود إلى بيتي لأنام بلا كوابيس، تؤنسني ابتسامة فاتن حمامة، ويطمأنني انتصارها على كل الشرور.

كانت فاتن حمامة، واحدة من أوائل - إن لم تكن الأولى - نجوم السينما، الذين ظهروا لي على شاشتها مباشرة دون أن يقفوا على خشبة المسرح، ولأنها بدأت التمثيل وهى طفلة دون العاشرة، فقد اتسم أداؤها بالتلقائية والبساطة، على الرغم من الأدوار الميلودرامية العنيفة التي كانت تؤديها، وإلى هؤلاء يعود الفضل في تخليص الأداء السينمائي من المبالغة في الانفعالات، وعن مط الحروف والزعيق اللذين كانا يميزان أداء نجوم الجيل السابق عليها الذين انتقلوا من المسرح إلى شاشة السينما، مثل "فاطمة رشدي" و"أمينة رزق" و"دولت أبيض" و"عزيزة أمير" اللواتي كان يسود الاعتقاد بينهن، أن الممثل لا يستحق هذه الصفة، إلا إذا أقنع المشاهد أنه يمثل الدور ولا يعيشه، وأنه يقلد الشخصية ولا يتقمصها، وهو ما خلق لدى المشاهدين إحساساً بأنهم ليسوا أمام شخصيات حقيقية تعيش بالفعل بينهم، وتتصرف كما يتصرفون، وحال بينهم وبين التوحد معهم.

وكان من بين أسباب ذلك أن تراث المسرح المصري - في بدايته - كان يعتمد على كلاسيكيات المسرح الأوروبي في القرون الوسطى، مما خلق بين الممثلين انطباعاً خاطئاً، بأن عليهم أن يقدموا للمتفرج المصري، شخصيات غريبة عنه، من حيث الزمان ومن حيث المكان.

وما لبث هذا الأسلوب في الأداء، أن انتقل من المسرحيات الكلاسيكية إلى المسرحيات العصرية، ومن المسرحيات المترجمة إلى المسرحيات المؤلفة، إلى أن ظهرت فاتن حمامة وجيلها، ليتغير أسلوب الأداء على الشاشة، وينتقل هذا التغيير إلى أسلوب الأداء على المسرح، خاصة بعد أن نشطت حركة التأليف له، وتطورت بعد أن ألف توفيق الحكيم مسرحياته التي جمعها بعد ذلك في مجموعة "مسرح المجتمع".. يكُفّ الممثلون - في المسرح والسينما - عن تمثيل الشخصية، وينتقلون إلى تقمصها وتجسيدها.

ولم يكن هذا التجديد في الأداء السينمائي، الذى اعتمدت فيه فاتن حمامة على موهبتها الفطرية، هو السبب الوحيد في نجوميتها الطاغية، التي تواصلت لما يزيد على ستين عاماً، مما جعلها واحدة من كبار الممثلين الذين يستطيعون بأدائهم أن يجذبوا المتفرج لكى يشاهد كل ما يقدمونه، ويقنعوه بأن يتوحد معهم، في كل دور يقومون به، ويشعروه بأنهم لا يمثلون عليه، لكنهم يعيشون معه، بل كان هناك سبب آخر لتلك الجماهيرية الكاسحة والممتدة.. هو طبيعة الأدوار التي قامت بها.. خاصة في بداية رحلتها السينمائية.

ومع التسليم بأن "فاتن حمامة" لم تكن في تلك المرحلة حرّة تماما في اختيار أدوارها، وأن الاتجاه إلى "سينما الأنماط" الذى يحبس الممثل في الدور الذى يعتقد صناع السينما أنه الرائج تجارياً، كان أحد أمراض السينما المصرية المتوطنة، إلا أن هذا لا ينفى أن ملامح فاتن حمامة البريئة والرومانسية وصوتها المميز الذى يختلط بنبرة شجن، وقد أهلاها للدور النمطي الذى أدته في كثير من أفلامها، خاصة الأولى منها: دور الفتاة النقية البريئة، التي تحيط بها الشرور من كل جانب، وتترصدها الفخاخ في كل طريق، ويظلمها الجميع، لكنها تحتفظ ببراءتها وتقاتل في سبيلها، وتجد من بين المظلومين والأبرياء مثلها، من يقف إلى جوارها حتى ينتصر الخير على الشر، وهو دور ينبغي الاعتراف بأن فاتن حمامة، كانت - كممثلة موهوبة - قادرة على التنويع في أدائه على الرغم من نمطيته وتشابهه.

أما المهم، فهو أن هذا الدور، كان يعكس جانباً من النفس المصرية والعربية، التي تراهن دائماً على الخير، وتنتصر له، حتى لو لم تستطع - وسط ضغوط الحياة - أن تمارسه دائماً، وتكره الشرّ وتزدريه حتى لو مارسته أحيانا، لذلك كان المتفرجون - خاصة في الدرجة الثالثة من دور السينما ومن طبقات المجتمع - يتوحدون مع أداء فاتن حمامة لهذا الدور، ويجدون في انتصارها على الشر الذى يحيط بهم، كما يحيط بها، وفى هزيمتها لكل الأشرار المتجبرين، رغم ضعفها وقلة حيلتها وهوانها على الناس، نبوءة بأن زمنا سوف يأتي لكى يتحقق حلمهم بعالم يحكمه الأنقياء.. ويخلو من الأشرار والفجار.

بينما أتابع جنازة فاتن حمامة تذكرت الأيام التي كانت ابتسامتها تؤنس وحدتي، وتمحو إحساسي بالغربة، جاء لي من الطريق صوت يغنى: يمامة بيضا / طارت يا نينة / عند صاحبها / ما خدها البلبل / وطار وياها / أصله يا نينة يعرف لغاها.

لحظتها تساقطت من عيني دمعتان وقلت: وداعا يا غرامى!