السبت 31 يناير 2015 / 15:46

"حريتي أن أوسع زنزانتي" ... أربعة جدران تحاصر الكتاب العرب




"حريتي أن أوسع زنزانتي" كثيراً ما يردد كتاب عرب كثر هذا المقطع الشعري الرائق والعميق الذي أبدعته قريحته محمود درويش، كلما هموا ليكتبوا حروفهم على الورق، أو ينطقون بها عبر الإذاعات والفضائيات، معتبرين، أو حتى متوهمين، أن ممارسة الكتابة أو جريان الكلام على اللسان، تقربهم من التحرر والخلاص، الذي ينشدونه، والذي دفع كثيرون منهم في سبيله ما فوق طاقتهم من العرق والدم والدموع والوقت والجهد والأحلام المجهضة.

وحين اندلعت الثورات تهلل هؤلاء ودقوا الهواء بأيديهم وصرخوا: ها قد جاءت لحظة التحرر التي انتظرناها طويلا حتى اشتعلت الرؤوس شيباً وشاخت النفوس، لكن هذه اللحظة سرعان ما تبخرت تحت وطأة الإرهاب والعسكرة والفوضى والقتل والتشرد والأطماع الرخيصة واهتزاز الدول وعشوائية الكيانات الاجتماعية وتأخر الثورة الفكرية والإصلاح الديني.

كأن درويش يلخص بعبارته تلك حال الكاتب العربي، قبل الثورات والانتفاضات وبعدها، فما إن خطفه الحلم إلى حرية مجنحة، حتى رده الواقع الأليم إلى رغبة فقط في توسيع الزنزانة، أو تحسين شروط الحياة القاسية داخل السجن الكبير. ومثل هذا التصرف هو ما يفعله المتفائلون، أما اليائسون فينسحبون داخل نفوسهم المهيضة، ويسحبون جدران الزنازين المظلمة لتضيق عليهم أكثر.

لكن هؤلاء وهؤلاء لا يحجبون أبداً أولئك الذين لا يغادرهم الأمل في تحصيل الحرية مهما طال الزمن وزاد العناء، حرية التفكير والتعبير والتدبير، كاملة غير منقوصة، ومبدئية لا مساومة عليها، وثمينة لا موضع لمقايضتها بأي شيء، لا بالأمن ولا بالخبز، فلا شيء يغني عن الحرية، ومن يطلب أمنه على حساب حريته، لا يستحق أمنا ولا حرية.

لكن مع شعار "تدرجوا واصبروا حتى تنضجوا فتنالوا حريتكم" المرفوع في وجه كل من يريد حرية حقيقية "الآن ... وهنا" يغلب منطق المتشائمين الذي يقوم على أنه لم يعد أمام كل منا سوى أن يحمل زنزانته فوق ظهره، فتسير معه في غدوه ورواحه، وحله وترحاله، وليس له أن يتخفف أو يتخلص منها، بل عليه فقط أن يترك ظهره ليعتاد على التحمل مهما طال الطريق، أو يتودد إلى الزنزانة فلا تٌثقل من حمولتها، فتعجزه عن السير تماما، وهكذا حتى يصل إلى "المحطة الأخيرة" من عمره المترع بالشقاء، ويغمض عينيه، لينعم بالحرية الأخيرة والأبدية في العالم الآخر.

المشكلة في مثل هذا المسار، في دنيا الناس، أن الزنزانة متعددة الجدران، فلا يكفي أن نهدم أحدها أو نصنع به كوة كافية لتهريب أجسادنا وأرواحنا منها حتى نجد أنفسنا أحراراً طليقين، بل علينا إما أن نمارس لعبة ترويض الوقت، أو أن نبحث عما نزيل به الزنزانة تماما، وعندها علينا أن نتحمل نتيجة المغامرة، فإما التحرر وإما الموت، أو الموت في سبيل الحرية.

ويقول الخائفون والمترددون منا: علينا قبل أن نقرر ماذا سنفعل أن نقرأ موسوعة الباحث العراقي عبود الشالجي، التي سماها بـ"موسوعة العذاب" ليسرد في ثمانية مجلدات كاملة طرق تعذيب السجناء والمتمردين على السلاطين الجائرين في التراث العربي، ونضيف إليها ثمانية مجلدات أخرى من صنع خيالنا، أو نتاج لبحثنا أو تجربتنا، عن التعذيب عند العرب المعاصرين، الذين ما إن تخلصوا من صدام حسين ومعمر القذافي حتى سقطوا في أفخاخ "القاعدة" وفروعها، و"داعش" وأتباعها، و"الحوثي" وأنصاره، دون أن يرحل كثير من المستبدين التقليدين والتاريخيين، الذين تتبدل ظروف الناس حولهم وهم على قسوتهم قابضين.

قد تنفعنا في هذه الحالة قراءة روايات عبد الرحمن منيف وصنع الله إبراهيم، ويمكن أن نختتم هذه القراءات بروايتين خفيفتين "العسكري الأسود" ليوسف إدريس و"السرداب رقم 2" للعراقي يوسف الصائغ، لكننا قد نجد أنفسنا نعانق الخوف مع أحمد سعداوي نبحث عن "فرانكشتاين في بغداد" أو دمشق، سيان، وبقية العواصم العربية ليست أحسن منهما سوى في أن درجة الخوف أخف قليلاً، أو أنها مؤجلة بعض الوقت، أو هناك من يضغطون على أنفسهم بقسوة حتى يتفادونها، بدفع شيء آخر أو قيمة أخرى، قد تكون أجدى وأنفس.

ويسدى هؤلاء الخائفون النصح إلى من يتهم بعض الباحثين بالانزلاق نحو التحيز والانتقاء المتعمد الذي يحرف الحقائق، وإلى من يعتقد في أن كل ما بالروايات من صنع الخيال، أن يقرأ ما كتبه معارضون عن تجربتهم في سجون الحسن الثاني وحافظ الأسد ونجله الذي يهدم سوريا على رؤوس أهلها في سبيل كرسيه الذي لم تتبق فيه سوى رجل واحدة، وكذلك ما كتبه الشيوعيون عن عذابهم المرير في سجون صدام وقبله في سجون عبد الناصر، والمتطرفون الإسلاميون في أقبية القذافي، وليتجول في السير الذاتية للمناضلين أو الرافضين العرب من المحيط إلى الخليج، سيجد أينما حل زنازين، كما تسمى في مصر، أو مهاجع كما يطلقون عليها في العراق والشام.


أما المتفائلون ممن لديهم العزم والجرأة على تحدى كل هذا دفعة واحدة، فسيهدمون الجدار الأول في زنازيننا، جدار السلطة السياسية الغشوم الذي بني من التجبر والتسلط والفساد، فتنقص الحمولة الثقيلة الجاثمة فوق ظهورنا، ويكون بوسعنا أن نزيد من تلاحق خطواتنا إلى الحرية، خاصة إن كنا عازمين على هدم الجدار الثاني، دفعة واحدة، أو حتى لبنة لبنة حتى يغمرنا النور والبراح.

والجدار الثاني صنعه تجار الدين، الذين استغلوا حاجة الناس الروحية وإيمانهم العميق برب السماوات والأرض، وراحوا يشّيدون حائطا عريضا بينهم وبين جلال النصوص ومقاصد الشرع، بتأويلات بشرية، ادعى أصحابها أنها صحيح الدين، وما هي إلا محض اجتهادات تحتمل الصواب والخطأ، وتأويلات تحتمل الصدق والكذب، لكنهم يمنحونها قدسية وإطلاقية، ويجعلون من الدين الذي نزل لإسعاد الناس، من خلال تعميق الامتلاء الروحي والسمو الأخلاقي والخيرية والنفع، مصدر للشقاء والتعذيب، والقتل والتخريب، بعد أن يحولوه إلى تجارة بائرة، أو أيديولوجية بائسة، أو عصاب نفسي ممقوت، أو إطار عام لتبرير استباحة الأرض والعرض والنفس والمال، من خلال الاستهانة بالمختلفين في الاجتهاد أو التصور، فما بالنا بالمغايرين في الاعتقاد والمذهب.

وإذا تمكنا من هدم هذا الجدار عبر التفريق بين "الإلهي" و"البشري" وجعل العقل مكملا لمسيرة الوحي وليس خصما منها أو معارضا لها، والوصول مباشرة إلى "النص الأساس" أو المؤسس، حسب وصف أدونيس في كتابه المثير للجدل "الثابت والمتحول"، والإيمان العميق بحرية الاعتقاد، فسيكون علينا أن نواجه الجدار التالي، وهو لا يقل صلابة وقسوة عن الاثنين اللذين سبقاه.

هذا الجدار الثالث هو ما توارثناه من عادات وتقاليد اجتماعية بالية، تخل بقيمة الحرية قدر ما تجرح قيم المساواة بقسوة، وذلك مثل تقدير مكانة الشخص بجذوره العائلية وليس بما حقق من إنجاز، واعتبار صاحب المنصب الرسمي، حتى لو كان لصاً ومنافقاً وجباناً، أهم مكانة وأرفع وضعا ممن لم يحظ بالمناصب حتى لو كان عالماً فذاً أو مبدعاً موهوباً، أو حتى مجرد مواطن بسيط لكنه شريف ونزيه ونظيف اليد ومعطاء.

ولا يتسع المقام هنا لأحصي عشرات العادات التي يجب وأدها، وإن كنت أقول إن هناك من التقاليد الحميدة ما يجب أن نعض عليها بالنواجذ، وأعتقد في أن القديم لا يمكن أن يموت كله. وفي المقابل يوجد من العادات ما يشكل عقبة كبيرة أمام بلوغ سقف كاف من الحرية، حتى تخف حمولة الزنازين التي نحملها فوق ظهورنا المكدودة. وهذه العادات تدور في الغالب الأعم حول التابوهات الثلاثة: الدين والسياسة والجنس، وتصنع عبر رسوخها في النفوس والعقول حبالا متينة تلتف حول الأقلام لتعيقها وتقيدها، ولا ينجو من قيودها سوى قلة من الكتاب، أبت أن يحد من حريتها شيء سوى ما تمليه الضمائر وتجود به النفوس الأبية ويفرضه العمل في سبيل نفع الناس والاتقاء بمعاشهم.

وفي بعض مداميك هذا الجدار يتم استحضار عموم الناس وعوامهم من قبل السلطة السياسية لمطاردة وحصار وتجريس المختلفين معها أو المعارضين لها، في حال أقرب إلى "المكارثية" أو "الفاشية"، مرة بتكفير المخالفين باسم الدين، وأخرى بتخوينهم باسم الوطن، وثالثة بتكميم أفواههم لأن البلاد في حرب مستمرة من نوع مختلف، ولا صوت يعلو فوق صوت المعركة.

هنا يشعر المختلف أنه معزول، وقد تطلق ضده شائعات مغرضة تنال من حياته الخاصة ودوره العام، وتجرح صورته في عيون الناس بلا رحمة ولا ورع، وعليه في هذه الحال إما أن يستسلم أو يصمت أو يتحايل على الأكثر ليجاري القطيع، ويكمنه في المقابل أن يتمتع بجسارة رافعا لافتة "لا تستوحشوا طريق الحق وإن قل سالكوه" ويراهن على أن الأيام تعمل لصالحه، وستبرهن على صدق ما يقول وما يكتب وما يفعل وما يطلب، لأن الزبد يذهب جفاء، وما ينفع الناس يمكث في الأرض.

وإذا تخطينا الجدار الثالث هدماً أو عبوراً كان علينا أن نواجه الجدار الأكثر ارتفاعاً والأكبر سمكاً، وهو ما في أنفسنا من قيود، تقفز رقيباً ذاتياً لحظة الكتابة، وتلعثما وقت المجاهرة بالحق والصدق، وقعودا إذا دعا الداعي إلى يوم الحرية الأكبر، ولامبالاة في مواجهة ظاهرة "الفرز العكسي" في مؤسساتنا التي تثيب ضعاف الإمكانيات وتحط من قدر المتمكنين، لا لشيء سوى لأنهم معتدون بأنفسهم، غيورون على المصلحة العامة، مجاهرون بمقاومة الفساد والتحكم الإداري البليد. كما يمتشق هذا الجدار الداخلي حين نضعف أمام ملذات الدنيا، فيتحول الإنسان لدينا إلى سلعة، والسلعة إلى قيمة عظمى، وننسى أن الله قد خلق الأشياء لخدمتنا، ولم يخلقنا لخدمتها.

وما في نفوس الكتاب من قيود يعود بالدرجة الأساسية إلى التأثير الضاغط للبيئة السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي يعملون فيها، فقهر السلطة لبعض الكتاب سجنا وتجريسا وتنكيلا، ووجود العادات التي تنفر من الحرية وتألف الاستعباد، والظروف المعيشية الصعبة لأرباب القلم، تشكل جميعا سياقاً قابضاً على نفس الكاتب ووجدانه، ولا يقاومها إلا من امتلك قدرات فائقة تمكنه من أن ألا يبالي بذهب السلطة أو سيفها، وآراء عوام الناس وتحيزاتهم، وشظف العيش وقسوته.

ومهما كان سمك جدران الزنزانة وارتفاعها فلا بد من هدمها مهما طال الزمن، وقل الزاد، وامتد الطريق. وحين تسقط هذه الجدران الأربعة نكون قد وسعنا الزنازين، بالقدر الذي يجعل أعناقنا بوسعها أن ترى حواف السجن الكبير، لنرفع من سقف شعارنا فيصبح: "حريتنا أن نهدم السجن ونجعل السجان يتسول الغفران".