الجمعة 20 فبراير 2015 / 17:22

لماذا يتابعني أينما سرتُ.. صوتُ الكمان!



منذ أكثر من عشر سنوات لم أقرأ -عامداً- لأمل دنقل، رغم أن أعماله الكاملة - في نسختها ذات الغلاف الأحمر الفاخر - لا تفارق مكتبتي، جنباً إلى جنب مع مجموعة من كتب لمبدعين أسهموا في تشكيل وجداني وذائقتي منذ بدأت علاقتي مع الكلمة.

لا تفارقني كُتبهم، ولكن قلّما أشعر بحاجة إلى قراءتها. وكأنما القراءة الجديدة سوف تجرح علاقتي بهم، أو بالأحرى - تجرح صورتي لنفسي المتعلقة بكتبهم، بعبارة أدق: صورة ذلك الجزء من الزمان والمكان المختلطة بتلك الكتب في ذاكرتي.

يكفيني أن أحمل كتاباً منها بين كفي وأقلّبه، ليبدأ شريطٌ من الذكريات يسري من بين أوراقه عبر أصابعي إلى عقلي، فأعيش لحظات من الماضي صنعها هذا الكتاب، أو حضرها، أو شارك في تأسيسها. عتمة ما تحولت إلى نور، كراهية استحالت حباً، رغبة جامحة نجحتُ في السيطرة عليها فأنبتت ثقةً في النفس، حزن تسلل فأقام في القلب، فرحة أزهرت وطارت بي، سؤال تحول إلى شغف دفعني إلى المزيد من القراءة، قبل أن أكتشف أن استمرار بعض الأسئلة معلقاً .. هو الإجابة الوحيدة الصالحة للتداول.

فهل كان من قبيل المصادفة أن يمرر لي "أحمد محجوب" تسجيلاً صوتياً لقصيدة "الكمان" المرعبة، على رابط في الفيس بوك ليتسلل داخلي صوتُ أمل دنقل بكلماته المنقوشة -من زمااااااان - في تجويف ذاكرتي عبر سماعات السيارة، وهل كانت مصادفة أن يحدث ذلك صباحاً، تحديداً في تلك اللحظة من الهدوء الذي يصنعه زجاج السيارة المغلق، وهي تنزلق في شوارع أبوظبي التي تحترم البشر!

هل تآمر "محجوب" مع كل تلك العناصر لكي يضعني على حافة الذكريات؟

كانت السيارة تنزلق هادئة تحت ضوء شمس أبوظبي، في ذلك الوقت الرائق من اليوم، كل الموظفين وكل الطلاب والتلاميذ لحقوا بأشغالهم، وتفرغتْ الشوارعُ للمتأخرين عن أعمالهم، وأولئك الذين لا تبدأ عقولهم في العمل قبيل التاسعة أو العاشرة صباحاً، فرتبوا مواعيد أعمالهم على هذا الأساس.. وإلى الفئة الأخيرة أنتمي.

كنت على بعد إشارة من مكتبي، عندما وصلتُ الهاتفَ بالسيارة، وقررت الاستماعَ إلى رابط دنقل، تسلل الصوتُ فعبأ المكان وانحرف بالزمان... فانحرفت بالسيارة عن المكتب، واستكملت القيادة إلى حيث تمكنني رؤية البحر.

(لماذا يتابعني -أينما سرتُ - صوتُ الكمان)

رأيت الفتى -الذي كنتُه في نهايات تسعينيات القرن الماضي- يحمل كاميرا وجهاز تسجيل صوتي، تنطلق به سيارة أجرة من ميدان الدقي نحو جامعة عين شمس لمقابلة أحد الأساتذة في كلية الألسن، في تحقيق صحافي حول أوضاع الترجمة في العالم العربي، يجريه لصالح جريدة شهرية تعنى بشؤون البحث العلمي.

ظل الفتى طيلة الطريق يراجع ما تحصّل عليه حول القضية من أرشيف الأهرام - الذي يزوره بالوساطة- ويكرر لنفسه النقاطَ التي سوف يؤكد عليها في لقائه بضيفه، ويخطط لمقابلة آخرين من شباب هيئة التدريس بالكلية، لمناقشتهم في الأمر على أمل أن تكون رؤاهم أكثر طزاجة، بعيداً عن المحفوظات المعادة لهواة الظهور الإعلامي.

كانت موضة "تطبيق الشريعة الإسلامية في مصر" رائجة في ذلك الوقت، وشهدت تلك الفترة نقلة نوعية في طبيعة الهجمات الإرهابية التي تمارسها الجماعات المرتبطة بتلك الأفكار، وهو ما منح السلطات وقتها الضوء الأخضر لفرض حالة من التشدد والاستنفار الأمني في معظم المرافق العامة، راجت معها خدمات "العصافير" بين أصحاب المهنة الواحدة، وبين زملاء الدراسة، ورفقاء المقهى، كان "العصفور" بالطبع أول من يتم تعيينه من الصحافيين المتدربين في مؤسسة، وأول المقبولين في نقابة الصحافيين، وقبلها هو عضو اتحاد الطلاب في كليته الفائز في جامعته، وهو بعد التخرج أول الحاصلين على الوظيفة وأول الحاصلين على الترقية وأول .. وأول .. ولا عزاء لمن لا يعرف "كيف يطير كالعصافير" فلا دور له مهما امتلك من مهارات.

المهم، في هذا اليوم لم يُكتب للفتى استكمال تحقيقه، ولكنه خاض تجربة لا ينساها حتى اليوم.

انتبه سائق التاكسي إلى أن في الأمر ما يريب، أخبر الفتى بأنه لن يدخل إلى شارع الجامعة، وأن عليه - إذا أراد- أن ينزل هنا، ويكمل الطريق على قدميه. وهو ما فعله الفتى، نزل وسار بضعة خطوات بمحاذاة سور جامعة عين شمس طرف كلية الآداب، وخطته أن يعبر الشارع عبر الجسر العلوي الواصل بين طرفيه، لينزل في الجهة الأخرى حيث كلية الألسن.

مسافة ليست بالطويلة، سارها الفتى إلى أن انتبه إلى ما كان السائق انتبه إليه مبكراً، حشود من الشباب - ظن في البداية أنهم طلاب- يسيرون قربه، بمحاذاة سور الجامعة، انتبه -بعد أن استفاق من حواراته الداخلية وانشغاله بفكرة التحقيق- إلى أنهم ليسوا طلاباً؛ أحجامهم متقاربة، يسيرون بشكل شبه منتظم، ورغم حرصهم على تنويع ملابسهم وارتداء بعضهم "كاسيكتات" رياضية ملونة، إلا أن قصة الشعر تقريباً واحدة، والسحنة التي لفحتها الشمس واحدة. بعضهم كان يخفي تحت ملابسه عصا بلاستيكية سوداء، يدعي الفتى أن أحدهم كان يداعبها ويُظهر طرفها بين الحين والآخر كمن يطمئن إلى قربها منه.

حث الفتى الخطى، ركض وسبقهم إلى أول بوابة للجامعة ليجدها مغلقة بسبب مظاهرات الطلاب المحاصرين بالداخل.

سارع الفتى إلى التقاط عدد من الصور لتجمعات طلابية صغيرة، وأمهات - لا يعرف حتى الآن كيف جئن إلى هناك- أخبرنه بأن أولادهن بالداخل، أخبر الجميع بما رآه، كثيرون فروا هاربين.

عاد الفتى خطوات ليصعد الجسرَ الواصل بين طرفي الشارع، كانت حشود الأمن قادمة، قبل خطوات من تقاطعه معهم، صعد درجات السلم الحديدية، وهرول صاعداً، لم ينتبه إليه أحد. من هناك راح يصوب عدسته إلى الجميع، تحت الجسر مباشرة -حيث ظنوا أنهم بمأمن عن الأعين- تجمع الجنود المتخفون في زيهم المدني، في تشكيل من صفين، وراحوا يستمعون إلى تعليمات يوجهها ضابط صغير بزي الأمن المركزي، كان يتحدث بصوت خفيض كأنه يجهز لمؤامرة.

انشغل الفتى بالتقاط صوره -التي سوف ينساها لسنين طويلة قبل أن يقوم بتحميض الفيلم ويرى أمام عينيه نظرة الجندي القاسية في بداية تكونها.

لمحه الجندي وهو يلتقط الصور من فوق الجسر، رمقه من أسفل … (إلحق يافندم.. في عيل منهم بيصورنا).. قالها بصوت عالٍ بلكنته الفلاحية لضابطه، ركض الفتى الذي لم يكن يحمل "كارنيه" نقابة ولا حتى "كارنيه" الصحيفة التي يعمل بها بلا مقابل آملاً في التعيين والالتحاق بالنقابة، إلا أنه لم يكن من ضمن عصافير هذا الزمن. ركض … وهو لا يعرف بماذا سوف يستقبله الطرف الآخر من الشارع.

كان الفتى فتياً ما زال، ربما، أو ربما بفعل الخوف قطعَ الجسر في خطوات، ولم يدركه الجندي الذي سبّه بالدين ولعنه بالأب والأم، لا يعرف ما الذي جعل الجندي يتكاسل عن ملاحقته، كل ما يذكره الفتى أنه وجد نفسه وسط حشد من البشر يهرولون مبتعدين عن الجامعة في اتجاه ميدان العباسية.

(لماذا يتابعني -أينما سرتُ - صوتُ الكمان)

كانت قصيدة دنقل -التي أرسلتَ لي رابطها -يا محجوب- هي الصوت الوحيد الذي يتردد في سمع الفتى، مختلطة وقتها بقصيدته التي يعشقها "الطيور".

كانت كلماتها تتكسر في رأسه عندما قرر أن يكافئ نفسه بكوب عصير قصب في ميدان العباسية، مستمتعاً بسادية - بدت له وقتها عجيبة- بمشهد عود القصب وهو يتلوى التواءته الأخيرة بين عجلات العصّارة نازفاً عصارته السكرية على إيقاعات ضجيج الحديد في زمجرته الهادرة.