الجمعة 27 فبراير 2015 / 12:50

داعش منّا آل البيت


يوجد في التاريخ الإسلامي ثورات مريبة لم يحالفها النجاح الجغرافي لكن مازال لها تبعات فكرية في واقعنا السياسي، فمنذ أن أطلق الحسين بن علي شرارة الثورة السياسية - بدعوى النسب العلوي وأسبقية الصحبة وأفضلية الأخلاق - مازالت الثورات تتوالى تباعاً وهي ما فتئت تتوضأ بدم الحسين وتتيمم باسمه، ومن بعد تلك الثورة لم ير العالم الإسلامي يوماً بسطت فيه الدولة سلطانها على كامل ترابها بدون أن يعكر صفوها ثورة "خارجية" في الشرق، أو انقلاب شيعي في الغرب، أو حراك للزنوج في العراق، أو بلشفة قرمطية في الحجاز، وكل ذلك لاشك أنه سيستنزف مشروع بناء أي دولة في أي حضارة إنسانية.


صار تاريخنا الذي نفاخر به الأمم هو تاريخ قيام الدول الكرتونية على أنقاض الكرتونيات التي قبلها، وصار التاريخ فقط هو لتحركات الخليفة الذي اختزل الإسلام في خاتمه، وصارت المعارك العظيمة هي المعارك التي دحر فيها أعداءه أو أخرس فيها المذاهب المخالفة لمذهبه، والمآسي هي إما يوم هزيمته أو يوم مقتله، والأفراح العامة هي إما أفراح توسيع رقعة سلطانه، أو أفراح جواريه اللواتي كنّ ينسل منهن أبناؤه من كل حدب وصوب، وبعد توالي القرون ونشوة الدين من البادية ارتقى بعض أئمة الدعوة مرتقى صعباً وصاروا يكفرون الدول التي من المفترض أنها لا تدين إلا بدين ساكنيها، فكفروا الدولة العثمانية بسبب شركياتها التي لا تعد ولا تحصى في حساباتهم، وخرجوا عليها بدعوى كفرها وفعلوا في الآثار الإسلامية ما فعلته طالبان في أصنام بوذا، وكان الرد من مشيخة الإسلام في اسطنبول هو التكفير المضاد لكل ما تمثله الدعوة على أرض الواقع في شبه الجزيرة العربية.

ثم انطوت صفحة ذلك التاريخ الثوري، وصارت للدول المحترمة حدود معروفة لا يخرم أطرافها سوى نسمات الهدوء والأمان، وفي خضم الأحداث المتفجرة و المتسارعة بسرعة الضوء من حولنا، استيقظ الناس على وقع "بعث" صفحة صفراء مهترئة من أحد كتب تاريخ القرن الأوسط، وإذا نحن أمام نسخة حديثة من أحد خلفاء بني العباس قبل سقوط بغداد، والذي لما رأيته يخطب من على منبر الموصل ظننت أن ما أراه هو ظهور متقن الماكياج للفنان "سلوم حداد" في أحد المسلسلات التاريخية التي فاتتني في رمضان السابق، ولكن عندما رأيت تلك الساعة الأنيقة ازدادت حيرتي في الديناصور الماثل أمام عين العالم أجمع.

وحين أفقت من صدمتي أيقنت أنني أمام دولة هلامية ظلامية ابتلعت أجزاء واسعة من بلاد العراق والشام وهي تشارف دخول بغداد تماما كما دخلها المغول في عام 656 هـ ، وكان من دواعي حظها اللغوي أنه قد اختصر سُخفها وانحطاطها وجهلها في كلمة "داعش" ، وبعيدا عن بائعات الهوى اللواتي ولدن دولة داعش في لحظة ضعف من واقعنا المر، لنا أن نتساءل من الذي يتحمل عدم وضع الواقي في أقذر عملية حمل وولادة عرفها التاريخ الحديث للعرب؟

هل هو الظلم؟ وقع ظلم على كثير من الأمم بسبب الأمريكان والإنجليز والروس والصينيين وغيرها من الأمم التي استبدت بأحد الأسماك الصغيرة أو المتوسطة الحجم، فماذا كانت ردة فعل الشعوب المضطهدة في غير بلاد المسلمين؟ هل قاموا بحرق شعوبهم وأرضهم تحت شعار لا صوت يعلو فوق صوت المعركة؟ لماذا يتربع الداعشيون ومن قبلهم القاعديون على عرش الإرهاب في العالم دون منازع حقيقي أو فلنقل جنبا إلى جنب مع جزارين العصر الحديث ؟ هناك حقيقة مُرّة يريد منا الترقيعيون أن نتغاضى عنها أو نتناسها بأي طريقة ، وهو أن الدعششة خرجت من رحم تراثنا، نعم إنه تراثنا الذي يحمل في طياته الجميل الصالح ويحمل في حواشيه الخبيث الطالح.

صار التكفير هو سيفنا الذي نسلطه على رقبة ليس من يخالفنا في الدين فقط بل حتى من يخالفنا في الأمور الجغرافية أو الفلكية ، وبما أن التكفير يهدي إلى الردة والردة تهدي إلى خلع الرقبة، فإن كل تكفيري هو في الحقيقة "عشماوي" قيد التنفيذ، وبما أننا مبرمجون للتبرير الباهت، فإنك ستجد من يخلق ترقيعة لكل فتوى تريق دماً بدون أي شعور بسيط بالذنب بحجة تصديرها بنصوص الكتاب والسنة وأقوال أهل العلم الثقات، بل وتبرر هذه الآلية كل فتوى تمسح بالكرامة الإنسانية البلاط وتضرب بمفاهيم الإنسان الحديث عرض الحائط، فلا تستغرب كثيرا إن رأيت من يُعزر بالركوب على ظهر الحمار منكوسا ليطوف به أسواق الناس أو بمن يُطاف برأسه بين المدن وكأنه شعلة أولمبياد تتلقفها الأيادي المنتشية بكل معاني النصر والعظمة.

إن هؤلاء قادرون على سحرك بشتى أنواع التبريرات التي تأخذك لبحر الظلمات ثم ترجعك منه وأنت أكثر غلظة وأشد طغياناً، سيقولون لك التكفير من حق أهل العلم، وبما أن أهل العلم مصطلح فضفاض، فإن كل من درس ورقتين وحفظ متنين وشرح معلقتين صار من أهل العلم الذي تُجتز الرؤوس بختمه، وإذا تنازلت وقلت أنك لن تقبل إلا فتوى من أصحاب الخبرة فإن مشايخ الفتوى الذين سيسكتونك بألقابهم وسيرهم الذاتية لا تنقصهم الخبرة التأصيلية للتكفير، وفتاويهم طافحة بإباحة الدم على أهون سبب، فستجد أحدهم يقتل بالجهر بالنية وآخر يقتل بالشبهة وغيره يقتل بالتمذهب وآخر يقتل بالتشبه بالكفار والحبل على الجرار، وإذا استخدمت سلاحهم و كفرتهم قالوا لك من كفّر مسلما فقد باء بها أحدهما وسترجع عليك تكفيرتك لتُكَفّر بها ، وإذا امتنعت عن تكفير الناس كفروك لأن من لم يُكفر المُكفر هو مُكفر، فأنت في النهاية إما مُكفَر أو مُكفِر.

نحن محاصرون بغشاوة بعض متون العقيدة الجافة المليئة بالعداوات السياسية والتي تدعو إلى شطر العالم إلى فسطاطين أحدهما مؤمن وآخر كافر، وحتى إذا حالفك الحظ وكنت مع جماعة المؤمنين، فإنه لن يكفي منك قول لا إله إلا الله لتكون مؤمنا قبل معرفة شروطها السبعة التي تقيك من الكفران، ولن ينفعك الإيمان الذي إذا لم تُسمّع نواقضه العشرة وإلا هويت في قاع النيران، وأينما يممت وجهك فأنت محاصر بعشرات المتون التي تطالبك بتكفير الأنواع والأعيان والتي تُمرر على طلبتنا وفي مساجدنا ومدارسنا بكل خفة و رشاقة ، ثم يقولون للناس تورعوا عن التكفير فهو حق خالص لنا من دون من تبقى من المؤمنين ... ثم نتساءل من أين خرجت داعش؟ قل لي من شيخك أقول لك درجة قربك من الدعششة.