الجمعة 27 فبراير 2015 / 19:27

هنا القاهرة



للمصريين أحوال تدهش الذين يتابعون ردود أفعالهم على ما يواجههم من مشاكل أو يعترضهم من عقبات، أو يقرؤون تاريخهم أو يدرسون شخصيتهم القومية، أياً كانت الفلسفة التاريخية التي يستندون إليها في هذه الدراسة.

ومع أنى ممن يفخرون بانتمائهم لمصر، ويحفظون - منذ عرفوا القراءة - عبارة الزعيم الوطني مصطفى كامل الشهيرة: "لو لم أكن مصرياً لوددت أن أكون مصرياً"، فقد شغفت برصد التناقض في سلوك المصريين، وفى ردود أفعالهم غير المتوقعة على ما يواجههم من أحوال.. فيقهقهون حين يكون المنطقي أن يبكوا، ويشدون المسخرة حين يتوقع الآخرون منهم أن يتخذوا موقفاً شديد الجدية وبعيداً عن الهزل. ولعل أبسط وأجمل ما قرأته في هذا الصدد، القصيدة البديعة التي كتبها صديقي وابن جيلي الشاعر الكبير سيد حجاب بعنوان "هنا القاهرة" وغناها علي الحجار، والتي يقول مطلعها "هنا القاهرة الزاهرة العاطرة النيرة الخيرة الطاهرة / هنا الحب والكدب والمنظرة / نِشا الغش فى الوش والافترا / هنا الحب والحق والرحمة والمغفرة".

وعلى العكس ممن تدهشهم ردود أفعال المصريين أحياناً، فإن إدماني لمتابعة هذه التناقضات ورصدها، لم تقلل من إعجابي أو فخري بالشعب الذى انتمى إليه، ولم أعتبرها من سلبيات الشخصية المصرية، بل أكدت هذا الإعجاب ورفعت من درجة الفخر.. ليس فقط لأنني وجدت شواهد عليها في سلوكي أنا نفسي، لكن كذلك لأنني بعد التأمل فيه، اكتشفت أنه لا يخلو من منطق مقبول ومعقول.

أما الذى يدعوني إلى قول ذلك، أو بمعنى أدق تكرار قوله الآن، فهو أنني فوجئت في حمى الأحداث العاصفة التي مرت بالمصريين خلال الأسبوعين الأخيرين، بتصاعد اهتمام شرائح ملحوظة منهم، بخبر بدا لي في البداية فرعياً وهامشياً وشديد التفاهة، هو عزم الفنانة الاستعراضية - وهى الصفة التي قدّمت بها نفسها - سما المصري ـ على ترشيح نفسها لعضوية مجلس النواب عن دائرة عابدين والموسكي.

وهو خبر ما كاد يذاع حتى اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي بأصدائه وتبادل روادها نصه، وأضافوا إليه مقاطع مصورة، وثابروا على متابعة بث كل جديد من تفاصيله، وعلى تزويده بآرائهم وتعليقاتهم التي شملت كالعادة التأييد والمعارضة والتحسين والتقبيح والترحيب والتقطيب، لينتقل الخبر إلى الصحف ومنها إلى الفضائيات، ويصل عبرهما إلى الشارع فيستقطب جانباً ملحوظاً من اهتمام جماهيره، انتزعوا أنفسهم من كل ما يحيط بهم من أهوال، ليشاركوا في مناظرة سياسية دستورية واجتماعية شديدة المسخرة وعميقة التفاهة، حول: هل يجوز لواحدة مثل "سما المصري" أن تشغل مقعداً في مؤسسة رفيعة الشأن تمارس سلطة الرقابة والتشريع، إحدى السلطات الدستورية الثلاث، وأن تجلس إلى جوار أصحاب المقامات الرفيعة والحياة العامة لتمثل - على قدم المساواة معهم - الأمة التي هي مصدر كل السلطات، في أول مجلس نيابي يتشكل بعد ثورة 30 يونيو؟!

وكان اسم "سما المصري" قد برز بقوة أثناء حكم الرئيس الأسبق د. محمد مرسى، حين فوجئ الناس بقناة فضائية معارضة لحكم جماعة الإخوان المسلمين تحمل اسم "فلول"، اجتذبت اهتمام معظم سكان الأحياء الشعبية والمناطق العشوائية، ليس فقط بسبب اسمها الذى يوحى بأنها لسان حال مناصري الرئيس الأسبق حسنى مبارك، الذين كانوا يحتكرون وحدهم هذه الصفة آنذاك، لكن كذلك لأنها كانت قناة تبدو فقيرة وشديدة البؤس مثلهم، فلا استوديوهات ولا ديكورات ولا مقدمو برامج من أصحاب الأسماء اللامعة ولا ضيوف من المحللين الاستراتيجيين أو الخبراء في الشئون الداخلية أو الدولية، ولا مفكرون من أصحاب الجباه العالية، ولا نجوم - في أي مجال - من مستوى فايف ستارز، أو حتى ستار واحد، إذ كانت القناة كما ثبت فيما بعد، تبث موادها من غرفة في منزل صاحبتها، ومديرتها ومخرجة برامجها، ولم تكن هذه المواد تتعدى مجموعة من الاسكتشات الغنائية الراقصة، تقوم سما المصري - فضلاً عما سبق - بتأليفها وتلحينها وأدائها، ولم يكن لها سوى موضوع واحد هو شد المسخرة على مواقف عدد من الشخصيات السياسية والإعلامية، التي كانت أسماء لامعة وبارزة على المسرح السياسي المصري آنذاك.. بسبب ما اعتبرته صاحبة القناة، تقلباً في مواقفهم السياسية، مع تقلب الأزمنة والأنظمة، وشمل هذا بالطبع عدداً من قادة العهد الإخواني الفلولي.

وعلى نحو ما، بدا لي أن سما المصري مصابة بلطشة فن - أشبه بلطشة برد - تبحث عمن يكتشفها أو يصقلها أو يشفيها منها، أما الذى شغلني فهو السبب الذى حقق لها هذه الجماهيرية الكاسحة، مع أن ما تقدمه لا صلة له بقواعد أي فن من التليفزيون إلى الاستعراض ومن التأليف إلى الغناء، ولا علاقة له بالسياسة على الأقل بمعناها الذى أفهمه، إلى أن تنبهت إلى أنني دون وعى تقريبا، لا أتوجه لمشاهدة ما تقدمه قناة "فلول" إلا حين أشعر بالإجهاد من متابعة غيرها من القنوات التي تبث برامج تزيد من إحساسي بالهم، وترفع من ضغط دمي، وبأن عقلي يكاد ينفجر مما اسمعه أو أراه، وأنني في حاجة إلى "فاصل" حتى استطيع أن أواصل متابعة ما يجري عندنا ومن حولنا، أو على الأقل أنام دون كوابيس، ولم أستبعد أن يكون ذلك هو السبب وراء جماهيرية سما المصري التي انطفأت بسرعة، لأنها كانت مجرد "فاصل ونعود".. نعود إلى ما كنا فيه!

ولا استبعد أن تكون رغبتها في الترشح لعضوية مجلس النواب، كما يقول خصومها، مجرد محاولة لاستعادة جماهيريتها التي تبددت بعد انتهاء الفاصل، إلا أن ذلك قد وضع خصومها في مأزق سياسي، ودفعهم لتجديد المطالبة بوضع قوانين تمنع من وصفوهم بالراقصات والفاسدين و"أبناء البيئات الواطية" من الترشح لموقع رفيع مثل عضوية البرلمان، تشمل العزل السياسي، بينما تمسكت هي بحقها في الترشح لأن الدستور يساوي بين المصريين جميعاً في حق الترشح والانتخاب، على أن يكون الفيصل بينهم هو صندوق الانتخاب.. فكسبت منهم الجولة في المباراة الديمقراطية.

وتذكرت ساعتها، الاحتفال الذى أقامته شلّة الهلس التي كان يتزعمها السيد أحمد عبد الجواد - بطل ثلاثية نجيب محفوظ - احتفالاً بقرار حزب الوفد ترشيح صديقه محمد عفت لعضوية أول مجلس نواب بعد ثورة 1919.. قال أحدهم وهو يجهز كأسه: لا يعيب الوفد أحياناً.. إلا أنه يرشح بعض أبناء السفلة لتمثيله في البرلمان نيابة عن الأمة.. وقال السيد عبد الجواد: ولكن الأمة تضم أبناء الباشوات وأبناء السفلة.. فمن يمثلهم في البرلمان غير واحد محترم منهم مثل محمد عفت؟ واندفعوا يضحكون حتى طفرت الدموع من أعينهم.