الخميس 16 أبريل 2015 / 08:43

على هامش هذا التفتّت



تتّجه المنطقة العربيّة اليوم إلى عنف محض وعبثيّ لا تكاد تخالطه ذرّة من سياسة، أو من معنى. ولربّما كانت "الدولة الإسلاميّة" (داعش)، في هذه السيرورة، لا أكثر من أداة التاريخ السالب والمديد كما شكّله الاستبداد العسكريّ متضامناً، ولو من مواقع الخصومة أحياناً، مع التأخّر الثقافيّ والتخلّف الاقتصاديّ.

أمّا المحطّة الأكبر لتقاطع ثالوث الاستبداد والتأخّر والتخلّف فهي حصراً محطّة الدولة – الأمّة التي حيل دونها مرّةً بعد مرّة منذ قيام الاستقلالات. ذاك أنّ دول الاستبداد قمعت مكوّناتها وأجزاءها، مماهيةً بين أحد هذه المكوّنات الأهليّة وبين السلطة، فيما تولّى التأخّر إعدام تطوير بناء الدول - الأمم وتطوير الوعي بها، بذرائع انتماءات إمبراطوريّة عربيّة وإسلاميّة، يغلب الإيديولوجيُّ فيها الواقعيَّ، من دون أيّ إصلاح يطال الوعيين القوميّ والدينيّ في شكلهما المعطى. أمّا التخلّف فأضاف بدوره بُعداً اجتماعيّاً بالغ الحدّة والاستقطاب إلى الانشقاقات الأهليّة أو السياسيّة القائمة، مُنقصاً عنصراً آخر من عناصر العقد الاجتماعيّ المفترض.

وحيال حائط مسدود منيع التحصينات كهذا، جهدت الدول العربيّة ذات النُظم العسكريّة كي تهرب من ذاتها أو تنسلّ من جلدها. فإذا بدت كثرة الانتماءات الليبيّة في عهد معمّر القذّافي المديد كاريكاتوريّةً بما لا يحوج إلى براهين إضافيّة، فإنّ الخطّ السوريّ الممتدّ من إهداء الذات إلى مصر الناصريّة في 1958 حتّى الوقوع في القبضة الإيرانيّة في الأعوام الأربعة الأخيرة، يعلن الكثير في ما خصّ العقبات الحائلة دون التشكّل الوطنيّ. والشيء نفسه يمكن أن يقال عن العراق الذي صاغته الولايات المتّحدة الأميركيّة عام 2003 إثر إطاحتها صدّام حسين ونظامه، ليعاود الإيرانيّون صوغه الآن. أمّا اللبنانيّون فلا نضيف جديداً حين نقول إنّ حياتهم، العامّة والخاصّة، تأرجحت على مدى عقود، ولا تزال، بين حرب أهليّة ضارية وسلم بارد. وفي هذه الغضون جُعل بلدهم ساحة جاهزة لاستقبال أيّة قوّة إقليميّة متوفّرة.

وقد يجوز الافتراض أنّ مؤرّخ العنف العربيّ الراهن لا بدّ أن يلحظ تلك المقدّمات المازوشيّة، الجالدة للذات، قبل الوصول إلى المحطّة الساديّة الراهنة. وهنا تكمن ضرورة المعالجة الشاملة والجذريّة التي تتعدّى السياسة حكماً.

فليس من المبالغة القول إنّ المطلوب راهناً، لبقاء مجتمعاتنا على قيد الحياة، استخلاص برنامج سياسيّ – ثقافيّ للمستقبل يجمع بين مقارعة الاستبداد وبين مراجعة الشروط التي أحاطت بتشكّل دولنا الحديثة. والأمران هذان ليسا، كما قد يبدو للوهلة الأولى، عديمي الترابط، بحجّة أنّ أحدهما سياسيّ بحت فيما الآخر ثقافيّ بحت. فالسياسيّ إنّما غرف من الثقافيّ بقدر ما غرف الثقافيّ من السياسيّ، بحيث بات من المستحيل فهم الطابع الاستبداديّ للسلطة القائمة في معزل عن التركيب المجتمعيّ والثقافيّ الأعرض، تماماً بقدر ما يستحيل فهم الأخير في طاقته على التجدّد والتوسّع من دون الدور الذي اضطلع به دائماً النظام الاستبداديّ.
فالأمر، في آخر المطاف، وفي مواجهة هذا المستنقع الدمويّ المتعاظم، هو الردّ على ثالوث الاستبداد والتأخّر والتخلّف وتفجّره البركانيّ، ومن ثمّ استخلاص حياة قابلة لأن تعاش ومؤسّسات قابلة أن تعمل، أكان ذلك من ضمن أطر الدول القائمة أو عبر اجتراح أطر جديدة تكون أشدّ تكيّفاً مع واقع الحال وحال العالم المعاصر.