الأحد 19 أبريل 2015 / 17:53

الزبون دائماً على حق



هذه العبارة من المأثور الشعبي المصري. موروثة جيلاً بعد جيل ودهراً إثر دهر، وسارية في ثقافتنا المصرية كسريان الدارجة المصرية على ألسننا. هذه العبارة، دون شكّ، أطلقها تاجر يعشق المال. وهو يعلم أن المال في جيب الزبون. وبالتالي فهذا الجيب، دون سواه، هو سيد الموقف، ومن ثم فهو على حق دائماً، مهما فعل ومهما كانت درجة معرفة صاحب الجيب بقيمة السلعة التي يبيعها له التاجر، وهل بالفعل تستحق المال المبذول من أجلها، أم تُراها سلعة "فالصو"، لا تساوي وزنها قشّاً.

الصيدُ الثمين لمثل ذلك التاجر هو الزبون "الغُفْل". الذي ينخدع في السلعة الزائفة ويُفرغ من أجلها جيبَه. وأما خصيمُ ذلك التاجر، فهو الزبون "الناصح" الذي يعرف قيمة الأشياء ولا يدفع فيها إلا ما تستحقه، وفقط.

أما الشيطان الرجيم بالنسبة إلى ذلك التاجر "النصاب"، فهو مراقب السوق. فهو الذي يفرز السلع ويفحصها ويُقيّمها، ويفصل الجيد الحقيقي، عن الرديء الزائف. التاجر يمقتُ ذلك المراقبَ لأنه يفضح أحابيله ويمزّق أشراكَه ويكشف زيف بضاعته، فيخسر التاجرُ زبائنَه الغافلين الذين كانوا يغدقون عليه الأموال ليشتري السيارات الفارهة والقصور التي تنام على ضفاف الأنهار وتؤمّن له أوقاتًا طيبة في أرقى المنتجعات السياحية في لحظات الزهو والقوة، مثلما تؤمن له أنظف أسِرّة العلاج في كُبريات مشافي العالم في لحظات المرض والوهن.

لهذا، يحاول التجارُ الكذبة قتل كل من يُفسد عليهم بضاعتهم التي لا يملكون سواها. فمن دون تلك البضاعة الفاسدة، هم حِفنةٌ من الأصفار الكبيرة الخاملة لا تساوي شيئًا. إن بارت بضاعتُهم وكسدت تجارتهم، ماتوا جوعا لأنهم لا يملكون وظائفَ أو مواهبَ أخرى يرتزقون منها، سوى التجارة في البضائع المضروبة، والاتّجار مع الغافلين والارتزاق من جيوبهم السمينة والإثراء من غفلتهم.

والزبونُ العجولُ مسكينٌ. يشتري كلَّ ما يجد أمامه ولا يعبأ أن يُقلّب في السلعة أو يقرأ مواصفاتها ليتأكد إن كانت أصلية من بلادها أم تقليدًا رديئًا لا يساوي شيئًا. مثلما لا يعبأ أن يعرف إن كان البائعُ صادقًا أمينًا أم كذوبًا غير أمين.

موقفُ البائع النصاب منطقي ومفهوم. فهو، شأنَ أي لص، يريد أن يثرى بأي وسيلة ولا يجد ضالته إلا في الزبون الغافل الذي يتكاسل عن قراءة الكتالوج المصاحب للسلعة. تلك طبائع الأمور. فاللصُّ وظيفته أن يسرق، وإلا ما عاد لصّاً.

أما موقفُ المشتري فهو مدهشٌ وغريبٌ وغيرُ مفهوم! لماذا يسمح للص بأن يمد يده داخل جيبه ويسرق، أو يمد يده داخل عمره فيستلب؟! لماذا يتكاسلُ الزبون في قراءة كتالوج السلعة قبل الشراء، علّه يفهم؟! فإن كانت وظيفة اللص أن يسرق، فهل وظيفة الزبون أن يُستغفَل ويُسرَق؟! لا عذر ثمة له لأن هناك مبدأ آخر يقول: "القانون لا يحمي المغفلين".

ويحدثُ أحيانًا، لأن السماء طيبةُ، أن يجود الزمانُ برقباء وخبراء يتطوعون لقراءة الكتالوجات عوضًا عن الزبائن. ثم يقومون بالتجوال داخل الأسواق. يفحصون السلع ويفرزون البضائع ويفصلون الجيد عن المعطوب، والأصلي عن التقليد. ثم يشرعون في كتابة تقاريرهم الدقيقة التي تنبّه المشتري قبل الغفلة والخسارة حمايةً لأمواله ووقته وعمره ومستقبل أبنائه.
هنا.... يحدث العجبُ العجاب!

بدلًا من أن يشكرَ الزبونُ هذا الرقيب ويُطالعَ تقاريره ويستفيد من خبرته وجهده في التقصّي وقراءة الكتالوجات والفرز والكشف، حتى يُميزَ الزبونُ الغثَّ من السمين والفاسدَ من الطيب والتقليدَ من الأصليّ، ثم يتعلم كيف يدقق بعدئذ، فيما يشتري ويقتني، وفيما ينفق مالَه وعمره، نراه، للعجب، ينهال بالعصا على المراقب الأريب الذكي، ويُطارده محاولا الفتك به!

الزبونُ مسكينٌ. متلهفٌ على شراء أية بضاعة مطروحة أمامه دون معرفة مصدرها، كأنما هو حريص كلَّ الحرص على بذل جيبَه بما يحوي من أجل إثراء التاجر النصاب الذي يضحك ملء شدقيه حين يشاهد الزبون َ الغافل يتضامنُ معه ليزجر المراقبين والخبراء الذين أرسلهم الُله لتنظيف الأسواق وفضح اللصوص.

أيها التجارُ اللصوص الأشاوس، ما حيلتُنا والزبون يناصركم على فاضحيكم؟! طوبى لكم زبونكم الطيب، فهو، بالفعل، يستحق بضاعتكم وما تبيعون.

ويا أيها الرقباء التعساء، كُفوا عن فحص الأسواق وفرز البضائع والإشفاق على الزبائن الغافلين، فلا مكان لكم في ساحة الأسواق. فالبضائعُ الفاسدةُ رائجةٌ مهما صرختم في أبواقكم الخرساء. موتوا بغيظكم في صمت، وتوقفوا عن إزعاجنا. فالزبون دايماً على حق.