الخميس 23 أبريل 2015 / 09:44

يأس بشر من البشر



شهد الأسبوع الماضي حدثين رهيبين في دلالتهما يحملان لوهلة على اليأس من إنسانيّة الإنسان، كائناً ما كان التركيب السياسيّ الذي يكتنف نظامه واجتماعه. ففي وسع هذين الحدثين أن يهزّا قناعات أكثر المتفائلين بالبشريّة، وأن يعزّزا آراء القائلين بأنّ الشرّ أقوى حوافز الإنسان بلا منازع.

ففي جنوب إفريقيا – البلد الذي ارتبط ذكره طويلاً بالنظام العنصريّ الذي لم يسقط حتّى 1994 – هاجم رعاع هائج مساكن ودكاكين يملكها مهاجرون أفارقة انتقلوا إلى العمل في بلادهم. وكان لتلك الهجمات، التي نفّذها سود جنوب أفريقيّين ضدّ سود وآسيويّين من بلدان مهاجرة، أن خلّفت خمسة قتلى وعدداً من الجرحى وخسائر اقتصاديّة فادحة تكبّدها المهاجرون الفقراء. أمّا الحجّة التي رفعها المهاجمون فهي أنّ المهاجرين ينتزعون من أبناء البلد فرص العمل القليلة المتوفّرة بسبب من أزمة البطالة المستفحلة هناك.

في الوقت نفسه تقريباً، وعلى متن قارب مطّاطيّ متداعٍ، كان عشرات الفقراء الهاربين من جحيم الفقر والاضطهاد في بلدانهم يحاولون التسلّل إلى السواحل الأوروبيّة حيث "النعيم" و"أرض الذهب"، وهو فصل آخر يكسر القلب من تلك الفصول التي باتت شبه يوميّة في عالمنا القاسي. لكنّ الشراكة في الفقر والهرب والمخاطرة في عرض البحر بوسيلة نقل بدائيّة، فضلاً عن اجتياز عائق التأشيرة، لم تردعهم كلّها عن التقاتل ما بين مسلمين ومسيحيّين، ما أفضى إلى رمي بضعة أفراد منهم في الماء. وهذا مؤلم وجارح بما فيه الكفاية.

لكنْ بدل أن يحمل الحدثان، وأحداث أخرى مشابهة، على إعلان يأس ذي طبيعة أخلاقيّة، فإنّه يدفع إلى استعادة أفكار سياسيّة قديمة كأفكار توماس هوبز (1588 -1679)، أحد أعمدة الفكر السياسيّ الكلاسيكيّ. فالمفكّر الإنجليزيّ هذا لم ينخدع إطلاقاً بأيّة طيبة إنسانيّة مزعومة، بل بالعكس تماماً ذهب إلى أنّ البشر مجبولون بالغرائز، وأنّ طبيعة الإنسان الشريرة كفيلة بدفعه إلى تقاتل غابيّ حيث تقوم حرب الجميع على الجميع، إذ هو لا يعدو كونه ذئباً للفرد الآخر. بيد أنّ الدولة السياديّة القويّة – التي بالغ هوبز في تعزيزها بالصلاحيّات عملاً بمعايير زمنه – هي التي تدرأ الشرّ الكبير للبشرّ بشرّ أصغر منه. وبهذا فقط يتحوّل المجتمع الطبيعيّ والوحشيّ مجتمعاً مدنيّاً متحضّراً. ولأجل هذا الهدف ينبغي على الأفراد أن يتوصّلوا إلى عقد اجتماعيّ في ما بينهم، يتوافقون بموجبه على التنازل عن بعض حقوقهم لقاء التمتّع بحماية الحاكم الضامن لحياتهم وأملاكهم.

لكنّ مفكّراً إنجليزيّاً آخر لا يقلّ أساسيّةً في الفكر الكلاسيكيّ، هو جون لوك (1632 - 1704)، أكمل ما بدأه هوبز، ولو بالانقلاب عليه. فقد اهتمّ لوك بالجانب الآخر من المعادلة، أي ردع عدوان الدولة على أمن الأفراد وممتلكاتهم. ذاك أنّ الأفراد وقد ارتضوا العقد الذي يجعل الحاكم حاكماً عليهم، يمكن لهم أن يسحبوا موافقتهم، بل يحقّ لهم أن يتمرّدوا على الحاكم إذا ما أخلّ بواجباته.

وفي آخر المطاف، فإنّ مركّباً يجمع بين قوّة الدولة وحقوق المواطنين المحميّة بالقانون هو ما يؤنسن الوحشيّ والقاسي فينا.
وهذا تحديداً ما توصّلت إليه الدول الديمقراطيّة بعدما خاضت من الحروب ما نمّ عن استعداد بشرها – مثلهم مثل سائر البشر – لأن يكونوا متوحّشين.