الجمعة 24 أبريل 2015 / 21:03

عبد الرحمن الأبنودي.. الطريق والأصحاب



قرأت اسم "عبد الرحمن الأبنودي" - لأول مرة - فى بداية ستينيات القرن الماضى، على صفحات مجلة "صباح الخير" فى زاوية بعنوان "شاعر جديد يعجبني" كتبها صلاح جاهين ليقدم من خلالها أصواتاً جديدة من ديوان شعر العامية المصرية، وهو الاسم الذى اختاره "جاهين" نفسه، لكى يصف به قصائد ديوانه الأول "كلمة سلام" ليحل محل مصطلح "الزجل" الذى كان شائعاً فى توصيف القصائد التى كتبها "عزت صقر" و"بيرم التونسى" و"أبو بثينة" وغيرهم ممن كانوا يكتبون الشعر بالعامية فى الجيل السابق، ليحطم بذلك الوهم الشائع بأن ما يكتب بالعامية ليس شعراً، لكنه فن أدنى درجة مما يكتب بالفصحى مع أن كليهما كان يستند إلى نفس الأسس وينبع من نفس الأبحر، التى قننها الخليل بن أحمد، ويلتزم بالقافية الموحدة ويعتبر البيت هو وحده القصيدة ويدور حول الأغراض التى عرفها الشعر التقليدى من المدح إلى الهجاء، ومن الوصف إلى الغزل ومن الرثاء إلى التهانى، ومع أن أمير الشعراء أحمد شوقي نفسه، قد كتب بالعامية قصائده التى لحنها وغناها الموسيقار محمد عبد الوهاب ومنها "النيل نجاشي" و"في الليل لما خلي" لكن ناشري أجزاء "الشوقيات" فى حياته، أو بعد مماته، بما فى ذلك ما نشره "د. صبرى السوربوني" في "الشوقيات المجهولة" لم يعتبروا ما كتبه بالعامية قصائد مما يليق بمكانته أن يضمها ديوان شعره، أو مجلدات أعماله الكاملة، وتعاملوا معها باعتبارها خطيئة زجلية ارتكبها أمير الشعراء.

ولم تكن دلالة مصطلح شعر العامية المصرية الذى صكه جاهين قاصرة فقط على استرداد مكانة العامية كأداة لكتابة الشعر، ولكنها ارتبطت - كذلك - بحركة التجديد فى شعر الفصحى التي حطمت عود الشعر التقليدي، وتحررت من القافية، واعتمدت التفعيلة كأساس للموسيقى الداخلية للقصيدة، وتخلصت من أغراض الشعر التقليدية لتتحول القصيدة إلى وحدة عضوية واحدة، تعبر عن ذات الشاعر، وتنبع من تجاربه وتخلو من الصنعة التى تحول الشعر إلى "نظم"، فيما عرف آنذاك بالشعر الحر، الذى بدأ مسيرته فى أواسط الأربعينيات في محاولات "علي أحمد باكثير" و"نازك الملائكة" وبرز بقوة فى بداية الخمسينات مع نشر قصائد صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي.

أما الأهم من هذا وذاك فهو أن شعر العامية المصرية، أعاد الاعتبار للفنان الشعبى المجهول، الذى ألف السير والملاحم والأمثال الشعبية والحكم والمواويل الحمراء والخضراء، وأغاني الأفراح وتعديد مناقب الموتى التى ظلت الأجيال تتواترها جيلاً بعد جيل، فاغترف من هذا التراث صوره وأخيلته، واستلهم أساطيره، ليقدم لنا فناً جميلاً، أقرب ما يكون إلى روح الشعب، ما تكاد تقرأ الجيد منه، حتى تكتشف أنك تنتمى لشعب فنان بالسليقة، جاء من الأزل وسيعيش إلى الأزل.

وكما تذوقت بين صفحات رواية "الأرض" التى كتبها "عبد الرحمن الشرقاوي" طعم قريتي وشممت رائحة حقولها وعرفت بين أبطالها نماذج مما عرفته فيها من بشر، فإننى ما كدت أقرأ قصيدة "الطريق والأصحاب"، فى سياق المقال الذى قدم فيه صلاح جاهين، كاتب محكمة قنا الابتدائية عبد الرحمن الأبنودي بعد أن أرسلها إليه بالبريد، حتى أحسست بنفس المذاق.

كانت القصيدة، تعبر عن تجربة الشاعر الذى يعود إلى قريته، متخما بالحنين إلى شواهد العالم الذى عاش فيه طفولته، وإلى لقاء أصدقائه لكى يستريح بين أحضانهم الدافئة من آثار تجربته فى المدينة "المدينة اللى بتاكل فى طريقها كل حاجة/ كل حاجة/ بياعين/ كل ناسها بياعين/ بصة الناس.. المودَّة.. بسمة الحب بتمن" بعكس قريته التى يخاطبها قائلاً "يا بلدنا أحلى ما فيكى أن توبك هوّه نفسه/ البيوت لون التراب/ والوشوش لون التراب/ لو قضيت ميت ليلة طويلة/ مستحيل أقدر أقولك/ قدّ إيه إنتى جميلة/ بس لسّه سراج صحابي فيه نهار/ وأنا جىّ/ عشان أريح بين إيديهم بلوتى/ واطفى نار".

بعد قراءتين أو ثلاث، كنت قد حفظت القصيدة، وحين تعرفت على عبد الرحمن الأبنودي بعدها بشهور، كان أول ما طلبت إليه أن يسمعنى إياها، وادهشنى أننى وجدت فيما ألقاه، بيتاً لم ينشره جاهين، ولم ينشر فى نصها الذى تضمنه ديوانه الأول "الأرض والعيال" وهو بيت يعبر فيه الشاعر عن صدمته، حين دخل إحدى دورات المياه العمومية فى المدينة، فإذا بحارسها يعرض عليه أن يدفع قرشاً، مقابل أن يسمح له بأن يقضى حاجته فى العين النظيفة الوحيدة بها، التى كان يحتفظ بمفتاحها ولا يفتحها إلاّ لأصحاب القروش والكروش، فأضاف الأبنودي فى قصيدته إلى مناقب أهل المدن، أنهم يبيعون كل شىء، حتى "شخة الإنسان بقرش"!

وقد لا يعرف الكثيرون أن أبنود هى القرية التى ولد فيها عبد الرحمن، وأنه أصر حين بدأ ينشر قصائده، على أن ينسب نفسه إليها، وأهدى إليها ديوانه الأول، باعتبارها أمه، مع أن اسمه الرسمى فى شهادة ميلاده، هو عبد الرحمن محمود.

أشوفك بخير يا عبد الرحمن.