السبت 23 مايو 2015 / 15:22

سرطان المذهبية والطائفية: لا تسامح مع اللاتسامح



ما نراه من تناحر طائفي في الدول الإسلامية ذات الطوائف المتعددة لهو دليل ساطع على أن الجانب المظلم من تراثنا العقائدي قد نجح في التسلل إلى التكنولوجيا الحديثة كخلايا السرطان النائمة، فشرائط "الكاسيت" التي أريد لها أن تكون مصدراً من مصادر الاسترخاء والراحة النفسية ببث التلاوات العطرة والألحان والأنغام الجميلة، تحولت في مطلع الثمانينيات إلى أحد مصادر التجييش الديني والعقدي، وهكذا تمكنت المحاضرة التي كانت تلقى في إحدى المدن العربية النائية، من تخطي الحاجز المكاني لتصل إلى جميع تلاميذ الشيخ الذي لم يلتق أغلب تلاميذه يوماً ما، فصار كثير من طلبة العلم يكتفي بحضور محاضرة واحدة أو دورة علمية لهذا العالِم، ويكمل بقية الدروس بالاستماع إلى أشرطة الكاسيت، ثم يعلن نفسه تلميذاً لذلك الشيخ ووارثاً شرعياً لعلمه.

ثم حدثت ثورة القنوات الفضائية التي قوبلت بفتاوى التحريم انطلاقاً من اعتقاد المتشددين أن لعنة الله تحل على هؤلاء المصورين، وسابقاً كنت أقول سحقاً لهذا التشدد الذي يحرم مشاهدة شاشة شفافة تنقل الصورة كما هي بلا نحت ولا مضاهاة لخلق الله، واليوم أجد نفسي نادماً على ما قلت وأستغفر الله لي ولكم، فتغير منحى الفتاوى أدى لدخول دعاة الفتنة والتشدد إلى كل منزل من منازل المسلمين وغير المسلمين، وصار ما كنا نحاول مواراته عن العالم يقدم على طبق من ذهب لكافة المشاهدين، وبات لدينا في كل منزل داعية يوزع صكوك الإيمان عن طريق المواعظ والبكائيات واللطميات.

والآن تمخضت الأحداث السياسية والدينية لتلد لنا قنوات مذهبية مهمتها تفريخ الإرهاب الطائفي، فالأذهان المستمعة تستقبل موجات ثقيلة من دعوات عدم التسامح مع الآخرين، واللافت أن الذين يدعون الله أن يجمد الدم في عروق المخالف هم أنفسهم الذين يدعون الله بأن يسبغ على بلادهم نعمة الأمن والأمان، فالأمان عندهم هو الأمان الموهوب للنسخ المكررة منهم، وهو الأمان الذي يسمح للناس أن يتراوحوا بين خلاف علمائهم فقط، أما ما عدا ذلك فهو خرق للإجماع الموجب لتكفير أو تبديع المخالف، وسترى من تناقضاتهم أنهم يسمحون - على مضض- للنصارى بأن يعبدوا المسيح في كنائسهم، ولا يسمحون لمن خالفهم من المسلمين أن يعبدوا الله بالطريقة التي يرون صحتها، وقد ينسفونها بسبب ناصبيتها أو رافضيتها لأنها مساجد ضرار وكفر لم تؤسس على التقوى والإيمان، والأقرب أن قنواتهم هي مثل ذلك المسجد الذي نعته القرآن الكريم بكونه ضراراً وكفراً، قال تعالى: ( والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون).

ولا ننسى أن لتراث الطرفين دور كبير في تأجيج الصراع المذهبي الذي لعبت فيه دعاة الفتنة فأفسدته، فقدموا تراث ابن تيمية على نحو متناقض، فتراه تارة يسمح بالزواج من الرافضة ويبارك نشرهم للإسلام في بلاد الكفار، وتارة يرى هؤلاء الرافضة أشد خطراً من اليهود والنصارى على المسلمين، أما من التراث الشيعي فإن المدرسة الإخبارية - التي تماثل السلفية عند السنة - قد تعمدت نعت أهل السنة بالبكرية والعمرية - نسبة لأبي بكر وعمر - وليس للإسلام، وأوغلت في النيل من السيدة عائشة حتى تستثير نخوة السنة ضد من يشتم أم المؤمنين، وبذلك يدور الطرفان في حلقة صراع دموية لا تعرف متى بدأت وكيف ستنتهي، فكل كلمة تقال في هذه القنوات الفضائية سيكون لها ردة فعل مضاعفة من الطرف الذي استثارته استفزازات الطرف الآخر.

والسؤال هو ما الهدف من هذه القنوات التحريضية؟ هم يزعمون أن هدفها دعوي محض، لكن هل ممكن أن تتخيل أن سنياً عاقلاً سيغير مذهبه وهو يشاهد مهاترات ياسر الحبيب؟ أو أن شيعياً عاقلاً سيغير مذهبه وهو يشاهد ترهات عبدالرحمن دمشقية؟ دعك من المتصلين الذي يعلنون استبصارهم من المذهبين والذين لم يغيروا من نسبة السنة للشيعة في العالم الإسلامي، وحتى لو صدقوا في ادعاءاتهم فإن أعدادهم ستظل هامشية جداً خلف الفاصلة الرياضية.

لا شك أن ما يحدث من احتقان طائفي هو بإيعاز من إيران الخميني، التي هي مستعدة للتضحية ببعض أبناء مذهبها للوصول إلى غايتها في تصدير ثورتها للعالم - تماماً كما تريد داعش السنية تصدير قتلها واحترابها - لكننا لا نستطيع أن ننكر كون الطائفية متفشية في المجتمعات العربية بغلاف تكنولوجي حديث، فبعضهم يفرح بحصول الكوراث الطبيعية التي تحدث في مناطق الطائفة الأخرى، والتي يعتقد في قرارة نفسه أنها مصائب حلت بهم بسبب عقائدهم الضالة، وبعضهم الآخر يدعو إلى عدم التبرع بالدم للطائفة المنكوبة لأن دمه قد ترعرع على الإيمان فلا يصلح أن يجري في عروق من تخلل في العصيان.

بما أن المفترض للدولة العصرية أن تكون وطنية لا طائفية ، فإن دورها هنا يجب أن يفرض على أفرادها - وخصوصاً رجال دينها - التسامح مع كل الطوائف الأخرى طوعاً أو كرهاً حتى لو استدعى ذلك جرهم إلى ذلك بالسلاسل أو نفيهم إلى صوامعهم النائية، بعيداً عن وسائل الإعلام، فلا تسامح مع اللاتسامح.