الخميس 28 مايو 2015 / 09:34

رؤى نقدية عن تجديد الفكر الإسلامى

جابر عصفور ـ الأهرام

عندما يقول بعضنا متحمسا: نريد أن نستبدل فكر ابن رشد بفكر ابن تيمية، فالمعنى هو أننا نريد أن نستبدل عقلية التجديد والابتكار بعقلية التقليد والاجترار، وأهم من

ذلك أن نستبدل رؤية عالم واعد تحاول الدولة أن تبنيه، متحدية أعداءها، محاربة تخلفها، بعالم آفل، نصارع من أجل القضاء على بقايا تخلفه، وعلى جرذان شروره، عاقدين العزم على أن نعبر تخلفه الاقتصادى لنصل إلى التقدم الذى يحررنا من ثقافة التخلف التى هى الوعاء الأوسع لعقلية التقليد والاجترار فى الفكر الدينى، ولوازمه فى فقه التخلف الذى يحول بيننا والوصول إلى فقه التقدم وثقافته فى آن.

هذا كلام ليس جديدا على من يتابعون ما أنشره من كتب أو مقالات. وقد سبق لى طرح مثل هذه الأفكار منذ سنوات ليست قليلة، تحديدا فى كتابى “نقد ثقافة التخلف” (2008) حيث أوضحت- فى التقديم- أن الغالب على تراثنا هو قيم التخلف لا التقدم، والدليل على ذلك أن الحضارة العربية الإسلامية لم تزدهر إلا بمدى ما حققت من حرية فكر وابتداع، وأنها لم تعرف طريقها إلى الانحدار إلا عندما استبدلت التقليد بالاجتهاد، والتعصب بالتسامح، والتسلط الظالم بالمساواة فى العدل، وعلماء السلاطين بالعلماء الذين عرفوا أن السلطان من بعد عن السلطان، فكانت النتيجة ازدياد معدلات الانهيار الذى اقترن بسجن المخالفين، فكريا وسياسيا ودينيا، والتصاعد المضطرد فى اضطهادهم وتعذيبهم، وإعدام عدد غير قليل منهم، مما أدى إلى الانحباس فى المدار المعرفى المغلق الذى اقترن بتوقف الحلم العربى الذى تحول إلى كابوس، وانسداد مجرى العلم العربى الذى أغلقته الجهالة والتعصب، متحالفة مع الاستبداد السياسى والتحجر الاجتماعى، فكانت النتيجة هى الهزيمة فى مواجهة غزو التتار والمغول والصليبيين معا، والانحدار إلى قرارة القرار من التخلف. وكان ذلك فى الوقت الذى بدأت فيه النهضة الأوربية من حيث انتهى أمثال ابن سينا وابن رشد، والتقدم العربى بوجه عام، وتسارع خطى الصعود الأوروبى فى الحضارة والتقدم بقدر اندفاع خطى الانحدار العربى فى كل مجال. وبدل أن نرث عصور ازدهار الحضارة العربية الإسلامية، ونبدأ من حيث انتهى العالم الحديث الذى لم يتقدم إلا بعد أن أفاد منها، ونقل ثمراتها الدافعة إلى التقدم الذى لا حدَّ له، أخذنا نردد شعارات المهزومين عن أننا أصل الحضارة الأوروبية، وذلك دون أن نتعلم منها المبدأ الخلاق الذى دفعها إلى التعلم منا، عندما كان لدينا ما نقدمه للإنسانية، فازددنا انحدارا فى هوة التخلف فى كل مجال. وكان ذلك السياق العام الذى سيطرت فيه ثقافة التخلف فى كل مجال.

وما كنت أعنيه بـ “ثقافة التخلف” هو الثقافة التى تردنا إلى الوراء فى كل مجال، معادية لقدرات الخلق والابتكار والإبداع عند الإنسان، مستبدلة بهذه القدرات نقائضها التى تعنى التقليد والمحاكاة والاجترار، معادية المعنى الخلاق للإنسان نفسه، من حيث هو الكائن الحر المختار المريد القادر على صنع عالمه على عينه، بوصفه الكائن الأسمى الذى استخلفه الله فى أرضه، مانحا إياه العقل الذى يميز به الخير من الشر، المفيد من الضار، الحرية من الاستعباد. وعلى النقيض من هذا الإنسان الذى يقترن بثقافة التقدم ما ترسخه ثقافة التخلف من إنسان ينطوى على جرثومة متأصلة أو نفس لوامة، لابد من مراعاتها ومراقبتها وإحاطتها بالنواهى التى تصلح أمرها وتردها دائما إلى المسار المقدور لها وعليها. والنتيجة هى إنسان سلبى بلا إرادة متأصلة، ولا حتى قدرة على المبادرة، مجبول على الإذعان والطاعة والتقليد والمحاكاة، ينظر إلى الأمام بعينين فى قفاه، فلا يرى إلا ما هو تكرار للماضى واجترار له.

هذا الإنسان السلبى هو النموذج الذى ينطوى عليه الفكر السلفى، من حيث هو رجل وامرأة، كلاهما خاضع دائما للغواية، ومن ثم يحتاج إلى رقابة ووصاية، خصوصا المرأة التى هى أدنى من الرجل فى كل الأحوال، وأكثر منه حاجة إلى الحجر والحجب والستر، فصورتها أقرب إلى صورة العورة، ناقصة العقل والدين، مصدر الغواية والفتنة التى يستعاذ منها، والتى لا يفارقها سوء الظن بها. ولذلك نقرأ فى بعض المعاجم القديمة أن الأَفن هو النقص الملازم للنساء، ويستدل عليه بقول منسوب إلى علىّ رضى الله عنه: “إياك ومشاورة النساء، فإن رأيهن إلى أَفن”، والأفن بالتحريك ضعف الرأى والحمق. ويقال: أفن الرجل ولا يقال امرأة آفنة لأنها على ما روى ناقصة عقل ودين، ولذلك نقرأ فى “تلبيس إبليس” لابن الجوزى ما ينقله عن سعيد بن المسيب قوله: “ما بعث الله نبيا إلا لم يأمن من إبليس أن يهلكه بالنساء”. وهو قول يدعم تأويله السلبى ما يرويه ابن الجوزى كذلك من حديث يقول: “سمعت أن الشيطان قال للمرأة: أنت نصف جندى، وأنت سهمى الذى أرمى به فلا أخطئ، وأنت موضع سرى، وأنت رسولى فى حاجتى”. ولا يوجد كتاب موسوعى من كتب التراث إلا ويحكى عن مواقف ويروى أقوالا، تنطق كلها وتقر تجذر التمييز ضد المرأة فى ثقافة التخلف الغالبة على تراثنا للأسف. ولذلك أفردت الكتب التراثية فصولا عديدة لتأكيد صور التمييز غير الإنسانى ضد المرأة. ولم يكن مصادفة- مع سيطرة ثقافة التخلف- أن تُفرد فصول عديدة لتأكيد أشكال هذا التمييز، وذلك من مثل كتاب “ابتلاء الأخيار بالنساء الأشرار” لإسماعيل بن نصر بن عبد المحسن السلاحى المعروف بابن القطعة. وعنوان الكتاب دال على ما فيه من تهوين وازدراء لحضور المرأة والتمييز ضدها. أعنى هذا التمييز الذى يمكن أن نجد ما يزيد عليه فى كتب من مثل “محاضرات الأدباء” للراغب الأصفهانى و“المستطرف” للأبشيهى وغيرهما كثير، حيث نجد أمثلة وافرة تؤكد الجذور التراثية فى الجوانب المتعددة من ثقافة التخلف التى لا تزال مستمرة إلى اليوم. ونجد ما يدعمها فى الجماعات السلفية المعاصرة التى تعتبر ابن تيمية إمامها الأكبر والأعظم. ويكفى أن أشير إلى أن ابن تيمية يرى أن المرأة بمنزلة الأمة لزوجها، ولهذا يقال للرجل سيدا، ولا يجوز أن يقال لها سيدة. والمرأة عورة وناقصة فى مقابل كمال الرجل عند ابن تيمية، وهى ضعيفة لا تبقى على سر، وسرعان ما تفضح الأسرار. وخلاصة الأمر أنها تابعة ذليلة للرجل، ومن ثم لا يجوز لها أن تكون فى مكانته. والنتيجة الطبيعية لكل هذه الصفات الكارثية هى فتوى ابن باز مفتى السعودية (السابق) الذى يقول: “ولاختلاط المرأة مع الرجل فى ميدان العمل تأثير كبير على انحطاط الأمة وفساد مجتمعها ... لأن المعروف تاريخيا من الحضارات القديمة الرومانية واليونانية ونحوهما أن من أعظم أسباب الانحطاط والانهيار الواقع بها هو خروج المرأة من ميدانها الخاص إلى ميدان الرجال ومزاحمتهم، مما أدى إلى فساد أخلاق الرجال وتركهم لما يدفع بأمتهم إلى الرقى المادى والمعنوى. وانشغال المرأة خارج البيت يؤدى إلى بطالة الرجل وخسران الأمة وعدم انسجام الأسرة وانهيار صرحها وفساد أخلاق الأولاد، ويؤدى إلى الوقوع فى مخالفة ما أخبر الله به فى كتابه من قوامة الرجل على المرأة”.(موقع فتاوى ابن باز)

وكل ما سبق نموذج لجانب من جوانب تخلف الفكر الاجتماعى والدينى فيما يتعلق بقضية المرأة التى تمثل خمسين فى المائة من المجتمع وقوته وطاقته. وتصوروا ما خسرته الأمة العربية الإسلامية من شيوع هذا الفكر الدينى المتخلف الذى لا يجد سندا حقيقيا من نص قرآنى أو من حديث صحيح. وللأسف، لا يزال مثل هذا الفكر الدينى المتخلف القائم على تمييز جهول قائما وموجودا فى مجتمعاتنا الإسلامية، وفى بعض الأوساط السلفية التى لا تتباعد كثيرا عن فكر ابن باز.

ولا سبيل إلى تجديد الفكر الدينى إلا بتحريره من قيود تخلفه. ويكون ذلك بتسليط أنوار العقل على ظلمات هذا الفكر المتخلف، وذلك بما يؤدى إلى تبديد الظلمة من ناحية، وتحرير العقول من ربقة اتباع هذا الفكر الذى لن يتحرر ويتجدد إلا بمعالجته بكل ما هو نقيض من مبادئ عقلانية إنسانية، تكشف عواره وتحطم قيوده التى أطبقت على عقول عوام المسلمين وبسطائهم طويلا، فظنوها حقائق وبقوا على اتباعهم لها، بسبب ثقافتهم التى لم تخترقها أنوار العقل بعد.

ويقودنى ذلك كله إلى السؤال الأهم عن كيفية تجديد الفكر الدينى؟ أعتقد أن الخطوة الأولى تتمثل فى معنى التجديد الذى يحل محل التقليد. ودال التجديد مدلوله الاجتهاد المفتوح فى مجال الفكر الدينى. وهو فرض واجب على كل عالم من علماء الدين، خصوصا فى هذا الزمان الذى انحرف فيه الفكر الدينى، فجاوز خطر التقليد إلى التعصب الذى أفضى إلى الإرهاب الدينى الذى تتساقط ضحاياه كل يوم. وأداة الاجتهاد هى العقل، ومدى التجديد المقرون بإعادة فتح أبواب الاجتهاد التى أغلقت بعد موت الشيخ محمود شلتوت هى ما أسميه بالعقلانية الإنسانية. وأنا أعنى العقلانية من حيث هى منزع فكرى يحتكم إلى المنطق بوصفه مصدرا للمعرفة وحاكما عليها، وذلك على النحو الذى يجعل من العقلانية منهجا معرفيا، يتخذ من العقل وأداته الاستدلال معيارا للحقيقة ومقياسا لسلامة الحكم على الأشياء. ومن هذا المنظور تتميز عقلانية المنزع Rationalityعن عقلانية المذهب Rationalism، فالمذهب العقلانى ارتبط بحركة فلسفية ازدهرت فى القرن السابع عشر الذى أطلق عليه عصر العقل على نحو ما نجده فى فلسفة ديكارت وليبنتز وسبينوزا.

وعقلانية المنزع اتجاه إنسانى فى المعرفة، وذلك من المنطلق الذى حدده ديكارت الفيلسوف عندما أكد أن العقل من أعدل الأشياء توزعا بين البشر، ولذلك فأى اتجاه عقلانى هو اتجاه إنسانى بالضرورة، وعدالة توزعه على البشر هى مظهر من مظاهر العدل الإلهى فى إطلاقه، بعيدا عن خصوصية الديانات أو الأعراق. وعندما نجعل العقلانية حاكمة فى تجديد الفكر الدينى، فإنما نفعل ذلك لنعيد الفكر الدينى إلى إطاره السليم الذى كان يمضى فيه عند المعتزلة والفلاسفة من أمثال ابن رشد، وزعماء الإصلاح الدينى وتجديد فكره من أمثال محمد عبده وعلى عبد الرازق والشيخ محمود شلتوت والشيخ عبد المتعال الصعيدى إلى أن ينقطع سياق المجددين فى الأزهر فلا يبقى فيهم ظاهرا – بالكتابة على الأقل- إلا الدكتور محمود زقزوق. ونحن نرى نماذج من هذه العقلانية فيما كتبه المرحوم جمال البنا- وهو على النقيض فكريا من أخيه حسن البنا- فى كتابه “العقلانية والإسلام” (القاهرة 2003) وقبله الدكتور أحمد البغدادى “تجديد الفكر الدينى: دعوة لاستخدام العقل” (بيروت 1999) وكتابات الدكتور فهمى جدعان، ابتداء من كتابه “أسس التقدم عند مفكرى الإسلام...” ( بيروت 1979) وما ذكرته مجرد تمثيل على وجود تيار عقلانى، أخذ على عاتقه المهمة الصعبة لتجديد الفكر الدينى بخاصة، وإشاعة تيارات الاستنارة بعامة، وذلك من قبل أن يسمع أحد عن القاعدة أو جرائمها. ولكن للأسف كان للأزهر دور مناهض للعقلانية التى حاول أن يزرعها فيه محمد عبده ومحمود شلتوت وعبد المتعال الصعيدى، لكن أنصار هذه العقلانية صاروا مطاردين أو مهمشين فى الأزهر، تحت غطاء أشعرى أقرب إلى التلفيق من التوفيق، وأميل إلى تشويه أفكار المعتزلة وابن رشد، ومن تأثر بهم من المحدثين. وكانت النتيجة جريمة اغتيال فرج فودة (يونيو 1992) والحكم بتفريق نصر أبى زيد عن زوجه (أغسطس 1996) وقبلها محاولة اغتيال نجيب محفوظ (ديسمبر 1994). وكلها علامات على الطريق الذى قادنا إلى القاعدة ثم داعش وغيرها مما أرى فيه نتائج حتمية لقمع العقلانية التى سعى المرحوم جمال البنا إلى وصلها بالإسلام. ولا يزال غيره يواصلون الكتابة لإحياء التيار العقلانى فى الفكر الإسلامى وتأكيد أن هذا الإحياء -أو حتى إعادة الصياغة- هى الطريق الوحيد لتجديد الفكر الدينى.

وأما الزعم بأن هذه العقلانية تناقض الدين فهو زعم متهافت تضلل به المجموعات السلفية الفئات المتكاثرة من الشباب الذين نجحت فى تضليلهم بسبب تقوقع الأزهر فى نزعة أشعرية، عزلته عن التيارات الحية الفاعلة فى المجتمع، وجعلته متواطئا مع ثقافة التخلف بالصمت وعدم المقاومة أو حتى المبادرة التى تؤكد الحضور المقاوم للتخلف. والنتيجة ضعف الصوت الأزهرى إلى اليوم، وعدم نجاحه فى صياغة تيار قادر على التصدى للتيارات الإرهابية التى تبدأ من فكر ابن تيمية، وتحيله إلى عقائد إرهابية، تبرر قتل الأبرياء من المسلمين والمسيحيين على السواء. وكلى يقين أنه إذا انضم الأزهر إلى التيار العقلانى فى الفكر الإسلامى، وكان دعما للمستنيرين من المثقفين المسلمين والمفكرين المصريين، فمن المؤكد أن فاعلية مواجهة الإرهاب سوف تزداد قوة.

وأما هؤلاء الذين ينطوون على هواجس من العقلانية، أو على وسواس قهرى مما فهموه خطأ عن العلمانية، فحسبى أن أذكرهم بما يؤكده محمد عبده وابن رشد على السواء، من أن العقل يجب أن يحكم كما يحكم الدين، فالدين عرف بواسطة العقل. ويضيف ابن رشد إلى ذلك: “وإذا كانت هذه الشريعة حقا وداعية إلى النظر المؤدى إلى معرفة الحق، فإنا معشر المسلمين نعلم على القطع أنه لا يؤدى النظر البرهانى إلى مخالفة ما ورد به الشرع، فإن الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له”. وحتى إذا وجدنا ما يوهم المضادة فالتأويل يزيلها. “والتأويل هو إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية من غير أن يخل ذلك بعادة لسان العرب فى التجوز”. ويذهب ابن رشد هذا المذهب لأنه كان يؤمن “أن الحكمة صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة لها”، فكيف يجرؤ الأشرار على أن يوقعوا بينهما من العداوة والبغضاء والمشاجرة، “وهما المصطحبتان بالطبع، المتحابتان بالجوهر والغريزة”.

إن العقلانية التى أتحدث عنها، والتى نقلت بعض ما يخصها من كتاب ابن رشد “فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال”، هى فى تقديرى المدخل المنطقى إلى تجديد الفكر الدينى، وذلك على النحو الذى يجعل من العقل ميزانا وسندا لكل من يأخذ على عاتقه مهمة التجديد. والعقلانية التى أتحدث عنها وأفهمها تعتمد على ثلاثة أنواع من العقل فى تقديرى. أولهما العقل التاريخى، وثانيهما العقل النقدى، وثالثهما العقل الاجتماعى السياسى (وأعنى به الخلاصة الصافية النقية للوعى الاجتماعى السياسى للأمة، مصوغة فى دستورها).

وعندما أطبق هذه العقول الثلاثة على الموروث من فقه التخلف، فإن النتيجة هى تعرية ما فى هذا الفكر من أشكال التخلف والتناقض والإضرار بالمصالح العامة للأمة ومصلحتها. وليأخذ القارئ ما سبق أن ذكرته نقلا عن ابن باز عن كراهة خروج المرأة إلى العمل، وتصور أن هذا الخروج هو سبب انهيار الحضارات القديمة كاليونانية والرومانية، فالعقل التاريخى سيرى أن هذا الكلام ينبنى على باطل وجهل بالحضارات اليونانية والرومانية وغيرهما من الحضارات التى لم تسقط لخروج المرأة إلى العمل واختلاطها بالرجال وإنما لأسباب أخرى تذكرها كتب التاريخ الموثقة. والعقل النقدى سيضع ما قاله ابن باز موضع المساءلة المنطقية فيجده كلاما عاريا من المنطق، فما هذا المجتمع الأحمق الذى سيحرم نفسه من جهد نصف قوته العاملة. والعقل الاجتماعى السياسى الذى يمثله الدستور سيقول إن نموذج فقه التخلف الذى يمثله ابن باز هو ضد الدستور الحديث لأنه ينسف صلاحية المواد التى تنص على المواطنة من جهة، والمساواة فى الحقوق والواجبات من جهة ثانية، وتأكيد فعل التمييز الذى يجرمه الدستور من ناحية أخيرة. ولا جناح علينا لو جعلنا الدستور مرادفا للعقل السياسى الاجتماعى حتى بالمعنى الدينى، فقد تعلمنا من أسلافنا الصالحين: حيث توجد مصلحة الأمة فثم شرع الله.

هذه العقلانية هى وسيلتنا الناجعة إلى تجديد الخطاب الدينى تجديدا ناجعا ونافعا وعمليا. والأمثلة متروكة للمختصين من القراء، وحسبى هذا النموذج التوضيحى.