الشهيد محمد العيسى
الشهيد محمد العيسى
السبت 30 مايو 2015 / 20:38

كوثر الأبرش التي استشهد ابنها في تفجير العنود: وداعاً يا بني وأنت في قناديل الله الآن

نعت الكاتبة السعودية كوثر الأربش، اليوم السبت، ابنها محمد العيسى، الذي استشهد إثر تفجير استهدف مسجد العنود بالدمام، في رسالة نشرتها على موقع التواصل الاجتماعي "تويتلونغر".

24 ينشر نص الرسالة التي كتبتها الأربش بعنوان "من الأرض: وداعاً يا ابني إلى الأبد وأنت في قناديل الله الآن":

"ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياءٌ عند ربهم يرزقون"

كتب ابني محمد العيسى معرفاً عن نفسـه في برنامج إنستغرام: "يوماً ما سيرى الأعمى بصمتي، وسيسمع الأصم بسيرتي".

وهذا فعلاً ما حدث، رأى الأعمى بصمته، وسمع الأصم بآخر ما كُتب من سيرته.

لقد تبرع لحماية المصلين، اندفع تجاه إرهابي مطوق بحزام ناسف بدلاً من أن يفرّ، فعل هذا لسبب بسيط ومعقد في نفس الوقت: "حماية الأبرياء، إيقاف هذه الوحوش الشرسة التي لا تستحق أن تكون جماداً حتى".

فعل هذا ابني محمد، لأنه يحمل في عقله فكراً مغايراً، معنى تطبيقياً وحقيقياً لمفهوم الإنسانية، الجميع رأى بصمته، رأوه مقداماً لا فاراً، رأوا اللحظة الأخيرة والانتقالية من الحياة إلى الموت، رأوا جسده محمولاً على يد المسعفين، ورأوه أيضاً ملفعاً بالبياض، ذاهباً لربه في عرشه الدائم والأزلي ليسكن إلى الأبد في قناديله المليئة بالضوء، تاركاً خلفه فعلاً لن ينساه مئات المصلين، ملايين المواطنين، بل الكون كله، لكن أحداً لا يعرف سيرة الشهيد ابني محمد كما أعرفها أنا، أنا أمه، أمه التي ستبذل جهدها، عمرها، وما تبقى من كلمات لم تقلها كي تخبر الآخرين عن سيرته للناس جميعاً، لقد كان ولداً خفيفاً، لطيفا، أبيضاً، والأهم من هذا كله نقياً، لم يكن مثل بقية الأطفال يطلب الحلوى والآيس كريم، كان الخبز طعامه، هكذا وبكل بساطة، خبزاً جافاً.

ما زلت أذكر ما حدث في بيت جده، فقدته وبدأت في البحث عنه، وجدته قرب صندوق يجمع فيه جده بقايا الخبز، وجدته هناك نائماً، نائماً وعلى فمه بقايا قضمة وابتسامة رضا واسعة كالفراغ، هكذا كان ولداً قنوعاً خفيفاً، كان حين يجوع يأكل خبزاً، وحين يغالبه النوم ينام على الكنبة أو جانب طاولة الطعام، وكأنه بهذا التصرف الطفولي والعفوي يريد أن يخبرني أن علاقته بدنيانا علاقة عابرة، سريعة، قصيرة.

كبر محمد، وكبرت معه أحلامه وطموحاته، كبرت معه الأسئلة، لم يكن أحداً حوله يشبع فضوله، وفي نفس الوقت كان محباً للناس، كان خادمهم، والمباشر في المناسبات الدينية والاجتماعية، وقبل كل هذا مبتسماً دوماً ودائماً وإلى الأبد في وجوه العابرين صغاراً أو كباراً.

محمد، ذو النسبة المئوية الكاملة والتفوق المدرسي، ذو البساطة والتلقائية والحميمية في التعامل الإنساني مع كل من حوله.

محمد ذو الروح الوثابة للتألق، للقيام بشيء ما، لترك أثرٍ يدلُ على الطريق، محمد مثالنا للوطن الشاب، المستلهم لماضيه، المتمكن من حاضره ليعيشه بكل ثوانيه، المتطلع لغده بكل أمنياته الخضراء.

ما كان محمد طائفياً أو إقصائياً أو نزّاعاً للفرقة، قَـَتَله الطائفيون والإقصائيون والنزاعون للفرقة، ذهب عارياً إلا من دمه، ليرينا أن الأبطال ليسوا بالضرورة أن يكون كباراً، الصغار يفعلون الأشياء العظيمة أيضاً.

وبعد كل هذا الحزن يبقى هناك صوت للحقيقة بدواخلنا يجب أن نفهمه جميعاً:

كلنا مستهدفون في لحمتنا، في نسيجنا، في تماسكنا، في قناعتنا التامة أننا وطن واحد، من قطيفه شرقاً، لرفحائه شمالاً، لجدته غرباً و لنجرانه جنوباً، نحنُ مستهدفون كي لا نتذكر بأننا جميعاً مسلمون نشهدُ ألا إله إلا الله و أن محمداً رسول الله، وأننا نصلي تجاه ذات القبلة، وأننا نرى الاختلاف ثراء وزيادة لا قتل وتدمير وأحزمة ناسفه، إن ما أريد أن أقوله لكم جميعاً بالكثير من الصدق وبالكثير من الحب:

1-  أن لا ننجر لأتون الفرقة ودعاوى الطائفية والإقصاء.

2- لا، لأي حشد شعبي ولأي عسكرة خارج إطار الدولة.

3- بيوتنا الداخلية، أفكارنا، موروثنا، ثقافتنا، كل هذا علينا مراجعته.

ختاماً وكل الكلام لا يكفي:

نعم أنا أم الشهيد محمد العيسى، وخالة الشهيدين عبد الجليل ومحمد الأربش، كنت دائماً خصيمة عنيدة للطائفية، والتطرف والكراهية واختطاف العقول واستغفال البسطاء، ولو كان ذلك في بيتي، لم أدخر جهداً ولا وقتاً لمحاربة الضغائن والتحريض والإرهاب، سنياً كان أو شيعياً، كان ذلك قبل وبعد أن خسرت الكثير من علاقاتي، منهم من كان من عائلتي ومنهم من كان من أقربائي وما زال ذلك يحدث لي حتى بعد أن فقدت ابني، لطالما اتهموني بأني أحرض عليهم، وأنا ما حرضت إلا ضد الكراهية والتطرف والطائفية والإرهاب و الجهل، وكنت كلما قاسيتُ أذىً وشتماً وتهديداً تشتد عزيمتي وإصراري على عدوي الأول وهو: التطرف.

لقد ذهب محمد حُراً، اختار أن يكون درعاً للمصلين، ترك لأمهات أصدقائه أن يحتضن أبنائهن كل يوم، وترك حضني فارغاً منه، فأحمد الله أنه لم يكن لي ابناً كارهاً، محرضاً، طائفياً مؤذياً للناس، بل افتدى الناس وذهب هو.

كما أعزي أم قاتل ابني وأعظم لها الأجر، لقد اختار ابنك خيرة الشباب وأنقاهم، ولو بذل جهده لينتقي لم يكن انتقاؤه بكل هذه الدقة، وأنا على معرفة تامة أن قلبكِ الآن كقلبي، حزين وباكٍ، كما أعزي بهذا الفقد الكبير كل أهلي وأخوتي وأبناء عمومتي وأبناء وطني الغالي، مصابي مصابكم، وكلنا في خندق واحد.