السبت 6 يونيو 2015 / 21:22

تحقيق النصوص وتأصيل وهم إنتاج الفكر الأصيل



يُشكل التراث المخطوط والشفوي، ركيزة استمرار الثقافات ومحور كيانها الأساسي، ولكن الشفوي الذي يتقدم في العادة المكتوب والمدون، أو النص النهائي، يُعد مقدمة لتثبيت النص والفكرة بالضرورة، ولكن بعد تقلب يمتد أو يقصر، ما يجعل النص عند تدوينه، خاصة إذا تعلق بالإخبار والتاريخ، رواية واحدة وموحدة، وفي بعض الأحيان لا تقل قداسة ومثالة عن بعض النصوص المقدسة الأخرى.

وفي عالمنا العربي، كما في كل الحضارات الأخرى التي تعايشت معنا وتفاعلنا معها، لم يختلف الأمر كثيراً، ولكن الثقافة العربية هي الوحيدة تقريباً من بين كل الحضارات الأخرى، التي أضفت على النصوص خاصة تلك التي يمكن أن نطلق عليها مصطلح النصوص المؤسسة، هالة من القداسة قل وندر أن تعثر لها على مثيل في الثقافات الأخرى، سواء منها المعاصرة أو حتى المنقرضة.

ويعود الفضل في هذا التقديس الذي أصبح ملازماً للمدونة والنص، إلى آلية لا تجد لها مرادف في الثقافات الأخرى إلا في بعض الاستثناءات التي لا تكاد تذكر، أو آلية "التحقيق" تحقيق النصوص وإخراجها، حتى لكأنها نقشت في الصخر، ولم تتقلب مع موجات الدهر وتصاريفه، ولم تتعرض لم يتعرض له الكائن الحي بما في ذلك النص من تغييرات وتعديلات وإضافات وحذفٍ وتحويرٍ.

وفي عصرنا الحالي، كثرت النصوص المؤسسة، المحققة والمدققة "علمياً" ومعرفياً ومنهجياً، حتى أصبحت المكتبة التي تضمها أشبه بالمتحف منه بالمكتبة التي تحوي بحر وزخم الكتابة والإضافة والإبداع، وأحسب أن عدد الكتب وتحديداً أمهات الكتب ، وعيونها ودررها أكثر عدداً من كل ما تجمع في دور كتبنا ومراكز وثائقنا من كتب دونت أو خطت حديثاً، فرغم أننا جميعاً أبناء غوتنبرغ مخترع المطبعة، إلآ أننا نعجز عن مقارعة ما دونه الأولون والأقدمون عددياً على الأقل.

ولكن "التحقيق" هذا المصطلح الذي لا يُخفي بوليسيته، وجنوحه للمساءلة والاستنطاق، مع ما يستوجب من "تعدٍ أو عنفٍ، أوتسلط، وربما تجنٍ على النص الأصلي، أصبح اليوم في ثقافتنا العربية المعاصرة، مفتاح صناعة الأوهام، والثقة المغلوطة في النص القديم.
 
وبالنظر إلى مئات وآلاف الكتب المحققة وغير المحققة التي تزخر بها مكتبنا، فإن الحقيقة التي لا يختلف فيها إثنان، استحالة الوثوق في أصل وحقيقة النص المرشح للتحقيق، فكل النصوص القديمة، بما في ذلك التي "نقشت في الصخر" وما أكثرها، لم تُحقق إلا في السنوات الخمسين أو أكثر بقليل الأخيرة، وفي أفضل الأحيان يُمكن مد الفترة الزمنية إلى قرن من الزمن.

ومن ناحية أخرى، يستحيل على أي محقق اليوم، أو بالأمس تأكيد تعامله مع نص أصلي، أو حتى مع نُسخة أصلية لمؤلف قديم، إن وجد فعلاً وإن لم يكن انتحالاً أو افتعالاً، وفي أفضل الأحوال فإن التحقيق الذي طال الكتب في أواخر القرن التاسع عشر، كان لمؤلفات نُسخت قبل ذلك بقليل أو بكثير، ولكن لا صلة لها بالنص الأصلي أو بصاحبه.  

وعلى هذا الأساس فإن المُحقق، الذي تفصله في العادة، سنوات وعقود وقرون، عن النص الأصلي وعن كاتبه، لا يُمكنه حتى وإن تسربل برداء العلمية،والحياد، التعامل مع صاحب النص ولا النص نفسه، ولكنه يسمح لنفسه استناداً إلى خلفيته الشخصية الخاصة، بالحلول مكان صاحب النص الأول، لـ"يُخرج"النص الصحيح.
 
وبالتأمل في المدونة العربية الإسلامية قديماً وحديثاً وحتى القرن التاسع عشر، ومنذ ظهور النصوص الأولى المبكرة، لم تكن الكتابة ولا في لحظة واحدةٍ، مجرد نهر يجري في دعة وهدوء في مجراه المرسوم، فلا وجود لنص خاصة من النصوص المعروفة أو المشهورة على الأقل، يُمكنه اليوم أن يصمد أمام مشرح التحقيق، والتدقيق، ليخرج علينا، في نسخة لا تمت بصلة ربما للنص الأول، كتابةً وظروفاً ومراميً ولا حتى إلى صاحب التأليف، ولا يُستثنى من ذلك أو أثر قديم مشهور.

فمن سيرة ابن هشام، إلى كتب السيرة الأخرى، أو كتب الطبقات وعيون العرب والقبائل وأخبائرهم، والشعراء وأحوالهم والحيوان وأشكاله، ومن الموطاً للإمام مالك الذي وضع في القرن الثاني للهجرة، إلى الفتاوى الكبرى لابن تيمية، الذي وضع في القرن السابع للهجرة، مروراً بعشرات ومئات الكتب المشهورة بأسماء أصحابها، أو المنسوبة إليهم، كما نعرفها اليوم لا علاقة لها اليوم بالكتب الأصلية، فإذا كان الإمام مالك مثلاً لم يضع أي كتاب، من تأليفه ما جعل طلبته يتناقلون عنه 12 "رواية مختلفة للموطأ"، فإن الأمر ينطبق تقريباً على كل المراجع والكتب الأخرى التي تحفل بها المكتبة العربية الإسلامية.

وفي العادة، لا يُحقق صاحب "التحقيق العلمي" خاصة الذي يتصدى لأعمدة المكتبة العربية الإسلامية هذه النسخة الأًصلية، ولا حتى الثالثة ولا حتى العاشرة، بل يُحقق ما وصل يده وحوته خزائن الكتب، والتي تعود في أفضل الأحوال إلى ما قبل قرن أو أكثر بقليل من عرصنا الراهن، وبعد أن شهدت تحويرات وتعديلات وتغييرات متعمدة أو عفوية، جزئية أحياناً وكلية أحياناً أخرى.

وفي مجالات أخرى تُعود النُسخ الأصلية، للظهور ثانية بالاعتماد لا على المؤلفات الأصلية أو نُسخٍ عنها متباينة الدقة في أغلب الأحيان، بل على مؤلفات أخرى تعرضت إلى العناوين الأصلية، وجمعت نُتفاً منها تحتاج بدورها إلى مراجعة وتدقيق قبل أن تتناولها يد النُساخ عل مر السنين، فيستخرج المحقق القديم والحديث كتباً محققةً، لا يرقى الشك في صلتها بصاحبها، أو بمن نسبت إليه، وهو شأن كتاب الحيوان أو البخلاء، أو كليلة ودمنة قبل ذلك، والأمثلة أكثر من أن تُحصر أو تعد.

ومع ذلك تطرح المطابع يومياً مثل البركان الناشط عشرات الكتب المحققة، التي تزعم إعادة نَسخ كتب أصلية عُدت في وقتها مراجع، لأهلها ولكنها اليوم وفي أفضل الأحوال، لايمكن أن تكون أكثر من قراءةٍ شخصيةٍ ، أو "ترجمة" أخرى لنص بعيد، في الزمن من قبل مُحقّقها، واجتهاداً محموداً منه، أوتخيلاً  لما كان يُمكن أن يكون عليه الأثر الأصلي وصاحبه، لو وُجداً أصلاً.

وفي مُطلق الأحوال فإن ذلك كفيل بنفي كل "قدسية" عنه وهو الذي لا يمكلها بالتأكيد، أوما يمنحها ثقةً أكثر مما تحصل عليه كتبً أو مؤلفات أخرى سواء كانت "تراثية" أو معاصرة.

ولكن وبالنظر إلى عصر الأزمة التي نتخبط فيها، وثقافة النكوص التي تُكبل العقل العربي الحديث، تختفي كل الاجتهادات وكل الأصوات أمام هدير حمم البركان المتدفقة من "بئر النصوص" ومن الوهم الكبير الذي تُقيدنا به، وهم النصوص المُحقّقة.