الثلاثاء 16 يونيو 2015 / 20:02

لماذا علينا أن نعيد قراءة ابن تيمية؟



أثار الدكتور علي ابن تميم جدلاً في مقالته التي نشرت بعنوان "ابن تيمية الذي حفر حفرة لابن حيان فوقع فيها"، التي نشرتها وكالة أنباء فارس محرفة، عما جاء في الأصل المنشور، متوافقة مع ردة الفعل التحريفية ضد المقالة نفسها قادها إخوان مسلمون لأسباب معروفة، كما تناولت مقالة أخرى للكاتب المعروف علي أبو الريش بعنوان "تصنيم ابن تيمية" القضية من جانب آخر، وهاتان ليستا أول ولن تكونا على الأرجح آخر ما يكتب عن ابن تيمية. فالكتابة عن ابن تيمية دائماً مثيرة، لأن هذا العالم الذي توفي في القرن الثالث عشر الميلادي هو واحد من أكثر علماء الإسلام تأثيراً في العصر الحديث.

ابن تيمية شخصية خطيرة وإشكالية. علينا أن نعود إلى الفترة التي عاشها، والتي أعقبت وفاته بأربعة قرون تقريباً، كان حضور ابن تيمية في الآداب والعلوم الإسلامية من بعده متواضعاً إلا من أصحابه الحنابلة، ومؤلفاتهم الفقهية، والتراجم المتواضعة التي كتبت عنهم، عانى الحنابلة فترة جدب كبيرة في ولادة علماء كبار ينافسون الشافعية والمالكية والأحناف، منذ آل قدامة المقادسة، وكان ابن تيمية تقريباً تعويضا عن حرمان طويل.كان ذكياً جداً، وجريئاً، ومتقشفاً، وقليل ذات اليد. وكان يمثل الجيل الثالث من آل تيمية الحنابلة. أحبه كثير من العوام، والأعراب، وأمراء القبائل من شمال الجزيرة العربية، وبعض من أمراء الحرب المماليك، وكرهه عوام آخرون، وعاداه علماء وفقهاء كبار، وتردد الملوك في شأنه، وسجن مرتين، واستتيب أكثر من مرة، ومات مسجوناً وهو في 67 من عمره.

سر الحظوة له بين العسكر والمحاربين وأمراء البدو، هي في شجاعته المفرطة التي تجلت أثناء الموجة الثانية لغزو التتر للشام، وفي جرأته في مجلس قازان ملك التتر. وهذا هو السر الذي جذب إليه بإعجاب بعض قاطني نجد و شمال الجزيرة العربية الذين شاركوا في تلك الحروب، فكانوا يستفتونه ويأخذون برأيه، وبقوا أوفياء له ولإرثه من بعده.

وقد كان تأثير ابن تيمية وحضوره بعد ذلك قرابة أربعة قرون، متواضعا مقترناً بضعف علماء المذهب أنفسهم، وتناقصهم وانكفائهم. بتتبع كتب الفقهاء، والسير والتراجم التي أرّخت لعلماء عصره ولمن بعده، باستثناء الحنابلة الذين بقي حضوره فيهم فاعلاً، وقلما ذكر في كتب غير الحنابلة إلا لماماً.

عرف فكر ابن تيمية ثلاث موجات من البعث والازدهار، أولاها مع صعود الوهابيين في منتصف القرن الثامن عشر، وهنا علينا تذكر أن إرث ابن تيمية كان لايزال حياً –ولكن خافتا-في حنابلة نجد، وتأثيره ظهر في بعض علماء زيدية اليمن كالصنعاني والشوكاني، وبعض علماء الحديث في الهند، ثم مع عصر النهضة العربية حيث اقترن النهوض العلمي والديني بالدعوة إلى الاجتهاد وتجاوز التقليد، حيث منح شيخ الأزهر محمد عبده وتلاميذه ابن تيمية حضوراً أكبر. يمكننا القول إن البعث الثاني لابن تيمية منذ أواخر القرن التاسع عشر كان هو نقطة البداية للتمرد على المذهبية الفقهية التي ضربت موجتها الشام والهند، والموجة الثالثة جاءت مع محمد ناصر الدين الألباني، الذي جعل من ابن تيمية تكئة لتأسيس مدرسة سلفية أثرية، جعلت من فقهاء المذاهب أصل البلاء والتخلف والخرافة، وكانت ثمرة بذوره الأولى احتلال المسجد الحرام من قبل طلابه.

ابن تيمية جدير بالدراسة والكتابة والمراجعة والنقد، فمعظم ماكتب في العصر الحديث عن كفر المعين، وكفر المخالف في الاعتقاد، وكفر الفلاسفة، وقتل الزنادقة، وقبول توبتهم من عدمها، وقبول توبة الشاتم للرسول، وعقوبة من فعل ذلك، وكل ما يكتب عن الحكم بغير ما أنزل الله، أو تبديل الشريعة، أو الطائفة الممتنعة، والخروج بالسلاح على السلطة والحكم، وكل ما ألف حول تكفير الشيعة وقتل الإسماعيلية وقتالهم، فإننا نجد ابن تيمية واحداً من المراجع الأساسية فيها، إن لم يكن المرجع الوحيد. كما أن معظم فقه التنظيمات المسلحة، والقاعدة، وشريعة دولة داعش، والجهادية التكفيرية، وقتلة السادات، اعتمدوا بشكل كبير على ماكتبه ابن تيمية أو أفتى به. 

من المهم التعمق في دراسة فكره وفقهه وتأثيره، وردة فعل معظم علماء عصره الكبار، فأتباعه وطلابه هاموا به، بينما كثير من فقهاء عصره وفضلائهم كفروه، أو بدعوه وضللوه، ورموه بالكذب والادعاء، وكثير ممن ترجم له من غير طلابه وممن جاء بعدهم لمزوه، وأشاروا إلى وصمه بالزندقة، منهم ابن حجر العسقلاني شارح صحيح البخاري.

يبقى السؤال: من بين آلاف علماء الإسلام عبر ألف واربعمئة سنة، لماذا ابن تيمية-ومدرسته- وليس غيره، من يكاد يمثل المعين والخزان الذي لا ينضب للحجج والذرائع في فتاوى التكفير، واستباحة دماء المسلمين المخالفين، والطوائف غير السنية، والاغتيالات، والتنظيمات الجهادية.
ويقال إن الأمير عبد القادر الجزائري الذي لجأ إلى الشام أثناء الاستعمار الفرنسي، كان يبحث عن كتب ابن تيمية ويشتريها ثم يتلفها، حيث كان على يقين أنه يحمي الأمة من خطرها.

أشير إلى أنه يكاد يكون كل الحنابلة الذين عاصروا الشيخ محمد بن عبدالوهاب، حتى الذين اختلفوا معه ومع تلاميذه، وكفروه وبدعوه، قد عظموا ابن تيمية وأكبروه، وقلما تجد فيهم من يلمز ابن تيمية. فقد تنازع الحنابلة أنفسهم، من هو الأحق بابن تيمية.

لكلّ ما سبق ذكره، فابن تيمية شخصية خطيرة جداً، ولأنه يكاد يكون من كبار متكلمي الإسلام المتفلسفة الذين آمنوا بالعلوم التجريبية، وبالسببية التي كانت سر نهضة أوروبا، و لأنه قال بأن نار الكفار تفنى حيث يكون مآلهم الجنة مع المؤمنين من عباد الله، ولأنه أيضاً قال بصحة إيمان وإسلام القضاة الذين يحكمون بشريعة التتر(الياسه) أي المحاكم المدنية حتى وإن تناقضت مع أحكام الشريعة، ولأنه كتب أعذب الرسائل إلى ملك قبرص الأرثوذكسي، يستلطفه ويتودد إليه لكي يطلق أسرى المسلمين حتى أجابه لطلبه، ولأنه يكاد يكون أكثر علماء عصره الذين عنوا عناية كبيرة بفقه الأسرة والحفاظ عليها من التفكك حتى وإن خالف الفقهاء والمذهب نفسه، وهو قد عاش كل عمره عازباً. ولأنه يكاد يكون من الفقهاء القلائل الذين راعوا التيسير في فقه المعاملات، ومراعاة الاحتياجات والتطورات الاجتماعية والاقتصادية. 

لكل ما تقدم ولغيره، علينا لا نجعل من ابن تيمية – كا في مقالة أبو الريش- صنماً... يعبد ولا يمس.