الجمعة 19 يونيو 2015 / 17:03

آمنة



(1)
عندما بلغ السادسة من عمره طلبت منه أمه أن يتهيأ ليقابل أبيه للمرة الأولى في حياته.

لم يكن اللقاء عادياً .

"استعد للسفر إلى يثرب لزيارة قبر أبيك" .. قالت آمنة.

(2)
كان عبد المطلب جد الرسول نائماً في حجر الكعبة، فأتاه في الحلم من يطلب منه أن يحفر بئر زمزم التي ردمتها السنون.

قام عبد المطلب يصحبه أبنه الوحيد وقتها "الحارث" وهم بالحفر بين الأوثان، غضبت قريش مما يفعله عبد المطلب، وتجرأوا عليه لما رأوه قليل الولد، فطلب من ابنه أن يزود عنه حتى يفرغ من مهمته، ولما رأى جرأة قريش عليه دعا أن يرزق بعشرة أبناء ونذر أن يذبح واحداً منهم في حجر الكعبة إذا استجيب لدعائه.

تدفق الماء عبر زمزم من جديد وفاض الخير على قريش، وتولى بعدها عبد المطلب سقاية زمزم للحجاج.

ثم رزقه الله بعشرة أبناء.

(3)
في الطريق من الكعبة إلى بيت آمنة كان عبدالله حديث قريش كلها ومحط أنظارها، كان عبد الله يسابق الريح مدفوعاً بمشاعره الفياضة تجاه آمنة والتي طالما خبأها حتى أطمأن على مصيره، فطلب يدها للزواج.

استمرت الأفراح ثلاثة أيام بلياليها إلى أن أذن المؤذن برحيل قافلته في تجارة إلى الشام .. في طريق العودة ألمت به وعكة قوية فنزل على أخواله في يثرب ووصلت القافلة بدونه.

ظلت تنتظر رجوعه إلى أن أدركت أنها كانت آخر مرة يلتقيا فيها سويا.

(4)
كان عبد الله لا يعرف مصيره بعد أن نذره عبد المطلب للذبح في حجر الكعبة.

أخذه عبد المطلب ولم يكد يهم بذبح ولده حتى قامت قريش تمنعه قائلة: "ستصبح عادة وسيأتي كل رجل بابنه ليذبحه أمامنا .. فما بقاء الناس على هذا؟".

قال له شيوخ قريش: "فلتنطلق بابنك إلى عرافة فيخيبر فإذا أمرتك بذبحه ذبحته، وإذا أمرتك بمخرج من هذا النذر فلتستجب لها".

قالت له العرافة: "ارجعوا إلى بلدكم، وقرب ابنك وعشرة من الإبل، ثم اضرب عليهم بالقداح (شيء يشبه إجراء القرعة)، فإن خرجت على ابنك فأضف عليهم عشرة آخريات، واضرب بالقداح مرة أخرى فإذا خرجت على ابنك فأضف عليهم عشرة ، وظل هكذا حتى تخرج القداح على ابنك سيكون ربكم قد رضى و نجا ابنك".

أمام الكعبة ظل عبد المطلب يضرب القداح مرة بعد أخرى وفى كل مرة يخرج على ابنه.

كم ناقة تراصت حتى خرج القداح عليها وصاحت قريش "إنه رضا ربك يا عبد المطلب"؟ مائة ناقة.

نجا عبد الله من الذبح لكن مات بعدها بشهرين.

(5)
لقد أمهله الله حتى يودعني هذا الجنين .. قالت آمنة.

كان جنينها مبعث سكينتها إلى أن بدد عبد المطلب هذه السكينة عندما طلب منها أن تتهيأ للخروج من مكة مع قريش بعد أن اتفقوا على الاختباء في شعاب الجبال هرباً من جيش أبرهة الحبشي الذى خرج من اليمن في طريقه للكعبة حتى يهدمها.

تهيأ أبرهة بجيشه لدخول البلد الحرام فسلط الله نقمته عليهم فانتشر فيهم وباء مهلك رمتهم بجراثيمه طير أبابيل، فجعلهم الوباء كالعصف المأكول، يقول ابن إسحاق: "لم تكن أرض العرب قد شهدت وباء الحصبة والجدرية قبل ذاك العام"، وقال عبدالله السهمى شاعر قريش: "ستون ألفا لم يؤوبوا أرضهم: بل لم يعش بعد الإياب سقيمها".. أي أن حتى من نجوا من الموت بالوباء في مكة ماتوا متأثرين به عند عودتهم إلى اليمن. انتهت المحنة و فرحت آمنة أنها ستستطيع أن تلد ابنها في مكة.

(6)
"رأت أمي كأنه خرج منها نور أضاءت منه قصور الشام" .. يقول النبي عن شعور أمه لحظة ولادته.

كان حزن آمنة على زوجها عبدالله قد تجدد بوصول المولود الذى حرم من رؤيته، وحال حزنها بينها وبين أن ترضعه إلى أن تكفلت "حليمة السعدية" بالمهمة.

(7)
في طريقه من الكعبة إلى بيت آمنة كان عبد الله محط انظار قريش كلها إذ أنه لم يفد أحد قبله بمائة من الإبل.

في الطريق طاردتنه نساء قريش يعرضن عليه أنفسهن صراحة ويغرينه بمهر مثل الإبل التي نحرت عنه قبل دقائق.

تجاوزهن كلهن إلى بيت آمنة.

في صباح اليوم التالي على زواجه خرج من بيته فالتقى بواحدة منهن فأشاحت بوجهها عنه

فقال لها: "مالك لا تعرضين على اليوم ما كنت عرضت على بالأمس؟"

فقالت له: " فارقك النور الذى كان معك بالأمس .. رأيت في وجهك نوراً فأردت أن يكون لي، فأبى الله إلا أن يجعله حيث أراد .. فماذا صنعت بعدى؟"

فقال: " تزوجت آمنة بنت وهب"

(8)
بعد عودته من رحلة الرضاعة ظل في كنف أمه تنبته بإلهام من الله نباتاً حسناً .. إلى أن بلغ السادسة.

"استعد للسفر إلى يثرب لزيارة قبر أبيك" .. قالت آمنة.

كان لقاؤه الأول بأبيه و الأخير بأمه.

في طريق العودة من يثرب توفيت آمنة.