الجمعة 26 يونيو 2015 / 12:09

من تجاربي: معنى الإسلام "طوعاً وكرهاً"



أحياناً نتوتر ونغضب وننفجر أو نقف عن الاعتراف بحقيقة ما، لا لشيء سوى خوفنا من الإذعان لوجود تلك الحقيقة. السبب في ذلك في نظري أننا حين ندرك حقيقة شيء ما، فإننا مضطرون لتغيير أشياء كثيرة في قناعاتنا وأسلوب حياتنا تبعاً لذلك. وما أصعب أن يذعن المرء لفكرة التغير بعد أن جلس سنيناً يدافع عن الكذبة التي كانت تخفي الحقيقة تلك وراءها. ولذا فإنه غالباً يلجأ لإقناع نفسه أنه لم ير شيئاً. والفرق فيمن يتغيرون، تماماً كما تغير المناضل مالكوم إكس عندما قال: أنا مع الحقيقة، بغض النظر عمن قالها، ومهما كانت فائدتها أو مضرتها.

كنت أرتحل من وقت لآخر لأسابيع أسافر في بقاع أوروبا بحثاً عما لم تكشف عنه كتب التاريخ من أسرار. وكما ذكرت سابقاً عدة مرات، كان هذا هوسي، خليط من نظريات المؤامرة والإعجاب بكتاب قرأته بعنوان "دماء مقدسة، كأس مقدسة"، تؤيد ادعاءاته كتب أمبرتو إيكو وقراءاتي في تراث المسيحية، زاد من أثر ذلك كله النجاح منقطع النظير لرواية "شفرة دافنشي" لدان براون، لكن ذلك كله توقف عندما أمسكت أول خيط الحقيقة، وسأحتفظ بالأسباب والتفاصيل للوقت المناسب.

خلال رحلة من تلك الرحلات، كنت متجهاً من العاصمة الإيطالية روما إلى ميلان على متن طائرة "أليتاليا" لحضور حفل أوبرا في مسرح السكالا الشهير. جلس إلى جواري في الصف الأول لدرجة رجال الأعمال رجل تبدو عليه الفضيلة، يرتدي غطاء للرأس وجلباباً طويلاً يذكر بالرداء الذي يرتديه بعض رجال الدين المسلمين، وفي يده مسبحة من مرمر كأنه اشتراها من أحد المحلات المحيطة بالحرم المكي أو المدني، لكن الشيء الوحيد الذي منعني من الاقتناع أن هذا الرجل شيخ إسلامي هو ذلك الصليب الذهبي الذي كان معلقاً على صدره، ولأن الشمس كانت تشع علينا من نافذة الطائرة الصغيرة، تصورت أن الحمرة التي تلون رداءه كانت أغمق مما أرى فكان الشبه الأزهري أكثر إقناعاً منه في الواقع خصوصاً أن ملامح الرجل الخمسيني أو الستيني لاتينية وفيه سمرة خفيفة كتلك التي تخلفها الشمس فينا نحن العرب. كانت إحدى المضيفات تظهر إجلالاً كبيراً للرجل وتسأله كل دقيقة إن كان يحتاج شيئاً.

جلس الرجل وربط حزام الأمان، وجلس يتمتم بصوت خافت. قلت له بالانجليزية: أتمنى لك رحلة سعيدة، فنظر نحوي بإيماءة وابتسامة لطيفة، وتابع النظر نحو النافذة انتظاراً لإقلاع الطائرة. شككت أنه لا يجيد الإنجليزية وعندها آثرت ألا أكمل محاولتي الفضولية لخلق حوار معه.

منذ لحظة جلوس الرجل إلى جواري استشعرت أنه شخص مهم من رجال الفاتيكان، لم يكن من الصعب إدراك أن الرداء الأحمر الذي كان يرتديه والقبعة الحمراء التي كان يضعها على حجره طوال الرحلة كانت رداء "كاردينال" وهي إحدى أعلى درجات السلم الرهباني في المسيحية، وهي درجة أميرية ذات امتيازات دينية وروحانية كبيرة، حيث أن الكاردينالات مؤهلون للترشح للبابوية التي تمثل القداسة الأكبر للمسيحيين في العالم. كنت أظن أن هناك حشداً في الطائرة وراء هذا الكاردينال المهم لكن الطائرة كانت شبه خالية، واستغربت أنه لم يطلب مثلاً أن يكون المقعد المجاور له محجوزاً لأحد مساعديه ولا أن يكون خالياً. المهم، لم تمض أربعون دقيقة إلا وكنا ننخفض تدريجياً إيذاناً بالهبوط. وخلال دقائق أضاءت إشارة ربط أحزمة المقاعد مع تنبيه بوجود اضطراباتخفيفة قادمة.

سرعان ما تبين أن الاضطرابات كانت قوية إلى حد مخيف، وخلال لحظات كنت ممسكاً بمسند المقعد بقوة ويداي متعرقتان وجبهتي تقطر عرقاً. كانت الطائرة تقفز حرفياً، وكان راكبو الطائرة في حالة ذعر. أما الكاردينال فكان كما كان، يتمتم بهدوء وإن كانت تبدو على وجهه سمة القلق. جلست أدعو الله وأتلو الشهادتين فور ملاحظتي ملامح الخوف على وجوه مضيفي الطائرة وجلوسهم على المقاعد المخصصة لهم.

 لحظتها أحسست بيد باردة تمسك بيدي الشمال. فنظرت إلى الكاردينال وهو يشير إلي بعينيه إلى السماء ويهدئ من روعي. كان يقول كلاماً لا أفهمه ولم أسمعه من قبل، ويبدو أنه كان باللغة اللاتينية. تصورت أنه كان يقول لي: صلِ لربك، فبكيت، فأمسك بي بقوة واحتضنني بذراعه. لم أشعر بالخوف فقد كان كل منا يدعو إلهاً واحداً ويتوجه بدعائه للسماء بغطاء دافئ من الأمل. لا أذكر بعدها إلا أننا كنا سالمين على الأرض.

مسح الكاردينال على رأسي متمتماً مبتسماً ومضى أمامي نحو سلم النزول. ولم أر وجهه بعدها إلا على شاشات التلفاز عندما تصدرت صوره الصحف والتلفزيونات يوم أن أعلن عنه بابا للفاتيكان، أو أنه شبه لي، رغم أن ذاكرة الأوجه عندي نادراً ما تخذلني بعكس ذاكرة الأسماء، ويومها لم أكن أعرف اسم الرجل الذي جلس بجواري.

لحظة الخوف تلك تكررت منذ ثلاث سنوات في تجربة أخرى في اليونان، عندما أوشكت عبارة كانت تقلني إلى جزيرة سانتوريني أن تغرق بي ومن معي من ركاب. في لحظة الرعب عندما كدنا أن نموت، كان إلى جواري عازف غيتار قرر أن يودع الحياة وهو يعزف ليهدئ روعنا، وعجوزين جلسا يقبلان ويحتضنان بعضهما في وداع مؤثر، وشابة مسيحية جلست تصلي باكية وهي تسألني أن أصلي أن ينقذنا الله. أما العجوز التي كانت تناقشني حول إلحادها بالدين في الدقائق الأولى للرحلة ثم ما لبثت تسألني والفتاة أن ندعو الله أن يتقبلها في ملكوته، فإنها وعندما مرت العاصفة القاتلة علينا ونحن أحياء وحطت بنا العبارة في قرية بعيدة جرفتنا نحوها الأمواج، عادت للهجتها المتهكمة الساخرة فور أن عرفت أن الشركة مالكة العبارة ليست مستعدة لدفع قيمة نزولنا في فندق القرية، متسائلة: ألم يكن يجدر بإلهكم أن يهلك مالكي هذه الشركة بدلا منا نحن الفقراء؟! ذكّرتها ضاحكا بمنظرها عندما كان الموت أقرب لها من حبل الوريد، ومضيت بحقيبتي، وأنا أحمل الفكرة نفسها التي حملها باقي الركاب ليلتها، وهي أن الله أعطانا فرصة جديدة للحياة وجب أن نمتن لها.

في مثل تلك اللحظات، استشعرت في نفسي ومن حولي الإسلام الذي طالما بحثت عنه. إنه الإسلام الذي يشملني ويشمل كثيرين غيري دون أن يكون له قالب ملزم ودون استئذان نمطي. ما أجمله من دين ذلك الذي يرى حقيقة الأمر دون لائحة شروط تؤدي إليه. قال جل وعلا: "ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً". وهكذا فإن الجنة التي عرضها السموات والأرض لن تضيق إن ضمّت أولئك الذين يثقون برحمة الله لا برحمة أحد غيره.