الإثنين 6 يوليو 2015 / 14:52

ما لا يفعله الوطنيون حتى وإن ظُلموا..!!



 دعت جماعة الإخوان، المصريين إلى الثورة على نظامهم، فقد وصل الأمر، كما تقول، إلى حد "لا يمكن معه السيطرة على غضب القطاعات المظلومة المقهورة، التي لن تقبل أن تموت في بيوتها، وسط أهلها". هذا ما جاء في بيان بعد مقتل قيادات من الجماعة في اشتباك مع قوات الأمن في مدينة السادس من أكتوبر.

إذا نظرنا إلى هذه العبارة باعتبارها نصاً، وإلى النص كتعبير عن استراتيجية خطابية، نجد أن الجماعة تدعي لنفسها دور ضابط الإيقاع، الذي يمكنه السيطرة على "غضب القطاعات المظلومة المقهورة"، والذي يحذّر، في الوقت نفسه، من احتمال فقدان القدرة على ممارسة هذا الدور نتيجة تغوّل من جانب النظام غير مسبوق، يقابله غضب من جانب المصريين غير مسبوق.

ولماذا تختار الجماعة لنفسها دور ضابط الإيقاع، أو صمام الأمان؟

لأن في هذا الدور، مع كل تداعياته، وطاقته التخييلية، ما يضرب أكثر من عصفور بحجر واحد. ففيه ما يُداوي جرحاً نرجسياً نجم عن السقوط المدوي من سدة الحكم، بعد الصعود الأسطوري قبل السقوط بعام واحد. ستظل هذه التجربة عالقة في أذهان الإخوان، وأشباههم، لعقود طويلة قادمة، لأسباب مختلفة، من بينها، بالتأكيد، الجرح النرجسي.

بيد أن دلالة الجرح النرجسي لا تختزل استراتيجية خطابية تتموضع الجماعة، بموجبها، بين النظام من ناحية، والمظلومين والمقهورين من ناحية ثانية. ففي هذا التموضع ما يوحي بامتلاك الجماعة لقيمة تفاوضية عالية (يمكن أن تضبط الشارع إذا أرادت) وتُستمد من هذه القيمة، وتُبنى عليها، قيمة تسويقية عالية (يمكن أن تضفي الشرعية على نظام وتسحبها منه). وكلتاهما فائقة الأهمية في علاقة الجماعة بنفسها، وعلاقتها بالحلفاء، والممولين، في مصر، والإقليم، والعالم.

ولنلاحظ أن التموضع في منطقة الوسط بين النظام من ناحية، و"المظلومين والمقهورين" من ناحية ثانية، يُعفي الجماعة، حتى بالتداعي الحر، من مسؤولية العنف الموجودة فعلاً في الشارع، وينطوي في الوقت نفسه على ما يوحي بالتهديد: بلغ السيل الزبى، ولا نضمن صبر الناس، أو قدرتنا على ضبطهم.

ثمة ازدواجية، هنا، بين التنصل من المسؤولية، والتهديد المٌبطّن بالعنف. ففي الحالتين يمكن تأويل التنصل، وكذلك التهديد، (نتيجة ما ينطويان عليه، في الصياغة الإخوانية، من غموض) بأكثر من طريقة. ولعل فيهما ما يعيد التذكير بحقائق من نوع أن من شب على شيء شاب عليه.

فالتنصل، المتبوع بالتهديد المُبطّن، تقليد مُتبع منذ ثمانية عقود، رغم ما لا يحصى من شواهد العنف على مدار الفترة المعنية. وحتى في بريطانيا، عندما طلبت الحكومة البريطانية التحقيق في علاقة الجماعة بالإرهاب، قالت الجماعة في حينها إن حظرها في بريطانيا قد يؤدي إلى نتائج غير محمودة العواقب.

بمعنى أن لكليهما، أي التنصل والتهديد، تبعات قانونية، وأيديولوجية، ودعائية، تستدعي الحفاظ على خط دائم للرجعة (لا المراجعة). وبين التنصل والتهديد علاقة تبادلية ونفعية، في آن: عدم التنازل عن دور الضحية، وإضفاء شرعية أخلاقية على العنف باعتباره نوعاً من الدفاع عن النفس.

ولنلاحظ، هنا، أن هذا كله يحدث في زمن تبدو فيه فرضية احتواء الإسلام السياسي المُعتدل، والرهان عليه، لمكافحة الإسلام السياسي المُتطرف، (التي تبناها الأميركيون بعد الحادي عشر من سبتمبر، ونجم عنها زواج المصلحة بينهم وبين الإخوان) وقد فقدت كل صدقية وجدوى محتملة.

ففي تونس، التي شهدت في سوسة عملية إرهابية أطاحت بالموارد السياحية للبلاد، ووضعت الدولة، في حال تكرار عمليات مشابهة، على حافة الانهيار، كما جاء في خطاب إعلان حالة الطوارئ، يشارك الإخوان التونسيون "المعتدلون" في الحكم، ولكن ما يضفيه وجودهم في الحكومة من شرعية على النظام القائم، لم يكن كافياً للحيلولة دون تصاعد الموجة الإرهابية إلى حد يهدد كينونة الدولة نفسها.

كان النموذج التونسي، في التحوّل الديمقراطي، مثالياً في نظر مراقبين في الشرق والغرب على حد سواء، بالتضاد مع النموذج المصري. وهذه الفرضية تبدو صحيحة في حالة واحدة: إذا قبلنا أن تفكيك بلدان قائمة إلى ولايات في خلافة وهمية، ناهيك عن شهوة القتل الجنونية، وسبي النساء، والتصفية الطائفية والعرقية، وتدمير حضارات عمّرت آلاف السنين، أشياء نجمت عن تغوّل الدولة، وافتقار هذا النظام أو ذاك لشرعية مُفترضة يستمدها من جماعة الإخوان، أو الإسلام السياسي، عموماً.

ولعل في هذا ما يعيدنا إلى الغموض المتعمّد، في معادلة التنصل من المسؤولية، والتهديد المُبطن بالعنف، في آن. لا تستقيم معادلة كهذه دون إقصاء مخاطر من نوع تفكيك الدولة، وما ينطوي عليه من أثمان إنسانية باهظة، إلى دائرة اللامفكر به.

فلو حضر احتمال كهذا، وما ينطوي عليه من مخاطر وجودية تتهدد مصر المحروسة، في ذهن كاتب البيان، الذي يفترض به أن يمثل ذهن، وأيديولوجيا، جماعة بعينها، لانتفت الحاجة إلى صياغات تقليدية مُبهمة تعيد التذكير بالضحية، وجراحها النرجسية، وحيلها البلاغية.

كان من الممكن أن تنتفي الحاجة لهذا كله لو حضرت مصلحة البلاد والعباد، وهما أهم من هذا النظام أو ذاك، وأكثر تعقيداً من ظلم حقيقي أو مُتوّهم. ولكن المصلحة الوطنية لم تحضر، وبدلاً منها زيّن بيان الدواعش عن هجماتهم الأخيرة، والحقيرة، على مواقع للجيش المصري في سيناء، يوم الأربعاء الماضي، صدر صفحات إلكترونية للجماعة على الإنترنت، بطريقة لم تغب عنها مشاعر التشفي والحقد والانتقام. هذا ما لا يفعله الوطنيون المخلصون لبلادهم، حتى وإن ظُلموا.