الثلاثاء 7 يوليو 2015 / 16:43

المناظرة الدينية



كانت مناظرات الشيخ أحمد ديدات مع المسيحيين محط أنظار العرب والمسلمين في مطلع الثمانينيات، فكنّا نرى القس "سواجارت" وهو يتهاوى أمام ضربات ديدات التي لا تخيب، وكان كلما فتح باباً ليطعن الإسلام فيه، ألجمه ديدات بلجام من نار لا يبقي ولا يذر، وكلما أراد أن يبرر بعض عقائد النصرانية، كان ديدات له بالمرصاد حيث أنه كان يعلم في الإنجيل أكثر من أهل التوراة والزبور والإنجيل مجتمعين! واتسعت دائرة هذه المناظرات المكوكية في أرجاء العالم حتى تدّخل القساوسة العرب -مثل أنيس شروش- لينقذوا ما يمكن إنقاذه من بقايا دينهم الذي حطمه ديدات بضربة لسان واحدة وهو الذي أوتي من البيان الإنجليزي سحراً.

ثم انتقلت هذه "الموضة" الحوارية إلى داخل الدين الإسلامي وظهرت في مطلع الألفية الثانية مناظرات مرئية بين السنة والشيعة بالتزامن مع الاصطفاف العالمي بين مؤيد ومعارض ومحايد لغزو العراق من قبل الأمريكان وحلفائهم، وكان أشهر هذه المناظرات على الإطلاق هي مناظرات قناة المستقلة في برنامج الحوار الصريح، ولأول مرة تمكن عامة المسلمين من سنة وشيعة من معرفة عقائد أنفسهم بدون رتوش قبل أن يعرفوا عقائد الخصم المقابل، ولعل ذلك التوجس الداخلي في المذهب الواحد هو ما دفع الشيخ ابن باز لرفض طلب الشيخ أحمد الخليلي بمناظرته علناً بحجة منع فتنة الناس في دينهم !

ولأول مرة يرى الناس أمامهم كتباً تاريخية حية تلهث بخصومة الآخر ومعاداته وعدم الوثوق به، بل وتعتبر كل ما فعله الآخر من صلاة وصيام وزكاة وحج وقراءة للقرآن هباء منثوراً، وكل ما اعتقده من اعتقادات منذ بلوغه سن الرشد ما هي إلا كتل من البدع ليس لها من الدين إلا اسمه، وصرت أنا -كسني مبتدئ- أستهجن اتهامي بأنني مجسم أعبد شاباً أمرد وأرفض مجرد التفكير بكون الصحابة قد تآمروا على الرسول وآل البيت بل وعلى الدين برمته من أجل الحكم والسياسة إلخ إلخ، وفي المقابل استهجن الشيعي المبتدئ اتهامات تحريف القرآن والغلو في الإئمة الاثناعشر واتهامات التقية والخيانة الوطنية إلخ إلخ.

ثم تفشت المناظرات إلى داخل المذهب الواحد ، وصار هناك حوار عنيف بين السلفية التي لا ترى سُنية أحد غيرها، وبين الصوفية والأشاعرة والماتريدية الذين هم تاريخيا جمهور أهل السنة والجماعة ، وتطور الموضوع إلى تراشق الطرفين بالفتاوى الشاذة والممارسات المتطرفة في سبيل إدخال الذات في منطقة الفرقة الناجية المذكورة في حديث ال٧٣ فرقة و شوي الخصم بنار جهنم جزاءا وفاقاً.

ثم أفرزت هذه المناظرات جيلاً من المناظرين الأشاوس في مواقع الإنترنت والبالتوك والقنوات الفضائية، كل يدعي تخصصه في حوار المذاهب على منهج القرآن، وصرتَ -مثلاً- تدخل "البالتوك" وترى العجب العجاب من تصدر معرفات وهمية للخطابة ويكأن أحدهم استاذ كرسي الأديان المقارنة في جامعة أوكسفورد، وما هم سوى مجموعة من "البطالية" الفاشلين اجتماعياً والذين تقتصر هواياتهم على جمع مثالب وعيوب الخصم المنتقاة والمجتزئة -ببجاحة وصفاقة- من كتب المخالف ومراجعه والتي يجب أن يعترف بها رغماً عن أنفه ليتهاوى بها مذهبه.

ولقد أستلبسني هذا الهوس حتى صرت أعشق مناظرة الشيعة لا لسبب إلا رغبة مني في هدايتهم، لكن كل هذه الجعجعة كانت أقرب لكونها نكاية من كونها دعوة للهداية، وكدت أعيد السنة في كلية الطب بسبب هذه المهاترات المذهبية، وأعلم زملاء لي إما رسبوا أو طُردوا من الجامعة بسبب سقوطهم المتكرر والذي أعلم أن سببه تمسحهم المفرط بجلابيب هذه الحياة الوهمية، فظن البعض أنفسهم سهام الإسلام لا يستغني عنهم ولا عن خدماتهم الجليلة، مع أن مثلهم كمثل الذبابة التي حلت على شجرة عملاقة ثم صاحت: سأطير سأطير، فردت الشجرة: وهل شعرت بك يا أيتها الذبابة الحقيرة حين حللتِ حتى أشعر بك حين غادرتِ!؟


اليوم عندما أجلس وأستذكر تلك اللحظات الغاشمة أضحك على كمّ التفاهة التي عشتها وعايشتها ودعوت لها، نعم إنها قمة التفاهة أن تنصب نفسك نبياً أو قاضياً على زملائك الطلبة أو إخوانك في الوطن، فتقوّم عقيدة هذا وتقيم الحجة على هذا وتقطع دابر هذا وتفند حجج ذاك ويكأن مشاكل العالم من فقر ومجاعة وتخلف وعنف وقتل وذبح ستنتهي إذا قمت بتصحيح هذه العقيدة أو تلك، وأنا أستحضر هنا قصة المسيح عندما أُتي بامرأة متهمة بالزنى، وأراد اليهود رجمها، وأرادوا أن يحرجوه بأن يشارك هو في رجمها، أو أن يقف موقف المعترض على شريعة موسى فقال لهم: (من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر).

السؤال الأهم الذي ما زال يراودني: كم عدد المتحولين بين المذاهب والأديان بسبب هذه المناظرات؟ هل غيروا من خريطة الدين الآخر زيادة أو نقصاناً؟ أشك أن عدد المتحولين قد تجاوزوا الآلاف المعدودة على أصابع اليد الواحدة، فهل يستحق هذا الشحن الديني والتجييش العاطفي كل ذلك العناء؟ لاسيما وأن كل طرف يصطف تلقائياً ولاشعورياً مع حامي مذهبه، ولو ادعى التجرد فهو مخادع لنفسه، فعقله الباطن يجعل كل كلمة يتفوه بها المخالف كذباً وافتراء، وما ينطق به صاحبه صدق وحق وحجة، فالمسيحي نظر لـ "سواجارت" تماماً كما نظرت أنا لديدات، والشيعي نظر لمحمد التيجاني تماماً كما نظرت أنا لعثمان الخميس، فالمناظرات هذه كانت وسيلة لجلد الذات وتعريتها أمام لحظات الشك التي قد يكون عانى منها أحد المتناظرين أو المستمعين في فترة من فترات حياته، وهي وسيلة أيضاً لاستحضار الأفكار البالية من بطون الكتب، لاسيما وأن بعض هذه القنوات صارت تجارتها المربحة تكمن في تكبيت الخصم ولعنه وإظهار أسوأ ما فيه، ومن الناحية الأخلاقية قد تكون شريكة في حمامات الدم السائلة في الشرق الأوسط بين السنة والشيعة.

يُقال أن الدكتور عبدالرحمن السميط قد أسلم على يديه ١١ مليون شخص بدون عنف طائفي ولا عراك مذهبي ولا تشهير علني، فكم شخص اهتدى على يد أصحاب زوبعات الفناجين؟