الجمعة 10 يوليو 2015 / 14:01

الفقه من المعلّم المعصوم إلى اللحم غير المسموم


 
لفتني "نقاش" مستفيض حاول أحد الدواعش خوضه، عبر حساب مبادرة "صواب" على تويتر، مع عدد من الشباب المؤيد لهذه المبادرة الإماراتية العالمية، الهادفة إلى مواجهة الأسس الفكرية و"الفقهية" لتطرف هذا التنظيم الإرهابي، فكان الداعشي الذي يتولى (وفقاً لمنظوره الأيديولوجي الضيق) هذا "الجهاد" الإلكتروني، وبين نوبات التهديد والوعيد، يسأل مناهضيه بثقة عجيبة بالنفس الأمارة بالسوء: هل اطلعتم على أحكام الشريعة، حتى تحكموا بأننا نخالف تلك الأحكام في ما نقوم به من أفعال؟

في حقيقة الأمر، فإن تلك "الأحكام" التي يتخذها الدواعش حجة، ليست سوى تأويلات وتفاسير مستلة من متون كتب تراثية ومدونات فقهية قديمة عفا عليها الزمن وأعيد إحياؤها اليوم لإيجاد ذلك السند الشرعي الذي يفتقر إليه داعش وغيره من التنظيمات الإرهابية. فمثلما تتجسد ثقافة التطرف والغلو و الكراهية، اليوم، في الواقع المعيش، فإنها مقيمة كذلك في موروثنا القديم، وإنّ الحرب أولها كلام، كما كان الشاعر العربي يقول.

إنّ فكرة التطرف فكرة مخاتلة وهي قد تبدو وجيهة عند المراهقين فكريا ممن لا يعرفون طبيعة الاسلام، لكنها فكرة راكدة في بعض المدونات الفقهية التي يتم التعامل معها كما يتم التعامل مع جراب الحاوي، لهذ يغدو السعي إلى فحصها مغامرة، ربما تنطوي على شيء من التشويق لكنها تتطلب حذرا وصبرا وبصيرة وحكمة.

لكن السؤال الذي بات يطرح يوما بعد يوم : هل في الوسع هزيمة بعض الفتاوى الدينية الإرهابية القديمة والحديثة بفتاوى دينية حضارية وعقلانية أخرى تمتح من الموروث نفسه، وهل نستطيع أن نهزم فكر داعش الإرهابي الساكن في الفكر الديني القديم، بإحياء التفكير الديني المناقض لداعش والمناهض لها؟

لقد بات مثل هذا السؤال مشروعا وضروريا، فإن فكر داعش كما يقال في كثير من المناسبات يسكن ويعشّش في أشباه الداعشيين المغرر بهم والمضللين ممن يقيمون بين ظهرانينا، لكن تحقيق مثل هذا الغرض بات صعبا دون أن ننزع القداسة والعصمة عن علماء الدين الذين لقوا وجه ربهم، أولئك الذين صارت لهم قداسة الأنبياء وعصمتهم، وأن نسعى لأنسنة خطاباتهم الفكرية وردها إلى بشريتها وعصرها ومجتمعها، وزحزحة الافتراض البطولي عن أصحابها ونزع الهالة السحرية عن تلك المقولات التي تجعلها معصومة عن الخطأ.

ولعل مقولة ابن عساكر الشهيرة "لحوم العلماء مسمومة" هي إحدى أبرز المقولات التي استعملت في خطابات المتشددين المعاصرين لتثبيت الفتاوى المتطرفة والمحرضة على القتل والإرهاب وتعصب كل طائفة لعلمائها. وفهم هذه المقولة يتطلب الاستمرار في تفكيكها وتحليلها، بالإضافة إلى العمل على فهمها ضمن سياقها التاريخي وتطورها، بدءا بالجاحظ وبحجة الإسلام الغزالي وانتهاء بالفقهاء المتشددين المعاصرين الذين كثيرا ما يلجؤون إليها في مخاطبة مريديهم وخصومهم على السواء.

ويعد الجاحظ واحدا من الذين تحولوا بالثقافة العربية من ثقافة تقوم على الشعر إلى ثقافة قوامها النثر. وكان إخلاصه في التاليف وثقافته الموسوعية قد جنبتاه الوقوع في "فوبيا لحوم العلماء المسمومة" المقولة التي تعززت في أشد العصور العربية إظلاما، لأنها تمنع النقد وتحرم السؤال أو تجرمه، ولم يكن بدع يومها أن يقال: "من تمنطق تزندق!".

كان الجاحظ يجلّ الكتب ويفضلها، وكل ما يتصل بها من عدة التاليف مثل القلم الذي يخط واللسان الذي يملي واليد التي تكتب، غير مقدس للعلماء، فقد كان مهتما بما يقال وليس بمن قال، كما أنه لم يكن يعترف بتصنيفات طلبة العلم المتشددة التي تكرس تقديس الأسماء بدل الأفكار، بل كان الجاحظ نفسه يرى أن فضل الكتب يتجلى في كونها تحمي القراء من الجلوس بين يدي من هم أقل منهم خُلقا، وكان يدرك بأن تعظيم المؤلف وسيرته هو المبدأ الذي تتكيء عليه ثقافة طلبة العلم في تدمير الأفكار التي تتضمنها الكتب بربطها بسيرة المؤلفين وأخلاقهم.

لم يكن الجاحظ مغامرا عندما أفرد حديثا عن ما أسماه "حرص الزنادقة بتحسين كتبهم" فلقد لاحظ اهتمام الزنادقة بصناعة الكتاب وتفضيلهم الورق الأبيض النقي على غيره، وتخيرهم الحبر الأسود المشرق البراق وحرصهم الكبير على استجادة الخط، ويتخذ الجاحظ من ذلك دليلا على أن الزنادقة يعظمون العلم، وإن كنا لا نعرف على نحو دقيق حتى الآن لماذا أدخلت كلمة "زنديق" الأعجمية إلى اللسان العربي! خاصة وأنها لم تستعمل في الشعر قبل الإسلام ولا القرآن الكريم أو الحديث النبوي وإن كانت شديدة الدوران والحضور في المدونة الفقهية المتأخرة.

ومصطلح "زندقة" المستجلب من الفارسية في القرن الثالث الهجري يشبه في مناح كثيرة مصطلح "ليبرالية"، فكلا الكلمتين غير عربيتين، ويستعملهما المتشددون قديما وحديثا في وصف خصومهم من بعض المثقفين الذين يسعون إلى الإفادة من ثقافة الآخر ومناهجه في مقاربة الذات، عملا بقول الرسول الكريم: "الحكمة ضالة المؤمن".

وإذا كان الجاحظ يحتفي بالكتب جاعلا منها المستند والمرجع، مزدريا في الوقت نفسه آفة تبجيل العلماء والمؤلفين، فإن أبا حامد الغزالي ظلّ مترددا بخصوص الانفتاح على كتب من يختلف معهم، فدعا إلى النهي عن مطالعة الكتب التي قد تستدرج قراءها ولا سيما الأطفال إلى الباطل والوقوع في براثن الشيطان وأنياب الحيات. لكن الغزالي لم ير، كما في سيرته الفكرية "المنقذ من الضلال"، بأن لحوم العلماء مسمومة، رغم أنه كان معاصرا لابن عساكر، وهو في ذلك يشبه الجاحظ. بل أن ثمة مقولة تنسب إليه تقول: من لم يهزه العود وأوتاره والربيع وأزهاره والروض وأطياره فهو مريض المزاج يحتاج إلى علاج".

لقد سعى الغزالي في "المنقذ من الضلال" إلى فضح العلماء الذين أطلق عليهم "طلاب العلم" و "المعلّمون" بل دعا إلى مجاحدة دعواهم الزائفه بوجود مَعلَم معصوم، ويقول في ذلك: إن "معلمنا المعصوم هو محمد عليه الصلاة والسلام". وظل الغزالي مستغربا من طلبة العلم أولئك الذين ضيعوا عمرهم في التبجّح بالظفر بالعلم، لكنهم لم يتعلموا منه شيئا، وكانوا حسب الغزالي كالمتضمّخ بالنجاسة، يتعب في طلب الماء حتى إذا وجده لم يستعمله، وبقي متضمخا بالخبائث مقتنعا بالعلم الركيك المستغث لاستدراج العوام.

ولعل أهم ما يمكن تعلمه من الغزالي أنه ناقش أعقد الأفكار دون أن يقع في المذهبية والطائفية، متعاليا على مجمل المصطلحات المضللة من مثل "سني وشيعي ورافضي وناصبي" بل رآها في الخطابات والاتجاهات لا في المذاهب والطوائف، وأعمل عقله ليخوض في موضوع أعقد من ذيل الضب، دون أن يسمي مذهبا بل فضّل تسمية الاتجاهات الفكرية من مثل أهل الكلام والتصوف والفلاسفة والباطنيين والعلماء وطلابهم وغيرهم.

لقد نقلت مقولة ابن عساكر الشهيرة "لحوم العلماء مسمومة" معنى الآية الكريمة "أَيُحِب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا، فكرهتموه" من كونها عامة الدلالة على البشر جميعا إلى العلماء فحسب سواء أكانوا أحياء أم أمواتا، حاضرين أم غائبين على السواء، وفي العصور المملوكية تحديدا فترة التراجع الفكري العربي الخلاق وحتى عصرنا هذا، ظلت مقولة ابن عساكر درعا حصينا لمدونة "طلبة العلم" التي وصفها من قبل حجة الإسلام بأنها ركيكة مستغثة، ونسجت حولها كثير من الخيالات لاستدراج القراء، وإرعابهم من الخوض فيها، وجعلها مدونة معصومة.

لقد صنع الفقه المتشدد منظومة أسطورية مرعبة انطلاقا من مقولة ابن عساكر، لم تدرس حتى يومنا هذا، وهدف هذه المنظومة دفع قارئها إلى الاستسلام للعلم الغث المتشدد بدلا من المراجعة والسؤال والتفكير والتجديد، وانهالت النصوص الموازية لتخفي ضحالتها بآيدولوجيا زائفة، وذاعت أفكار وهمية لتوجه دلالة مقولة ابن عساكر إلى معنى ضيق ومشوّه، من مثل أنّ إعمال العقل في إرث عالم ما ونقده أو جرحه هو جرح لإرث الرسول الكريم، وأن من ينتقدهم ستهتك أسراره بل سيموت قلبه وسيسقط من أعين العامة والخاصة وسيكون على حفرة من حفر جهنّم، بل بالغ الآخر حتى قال بأن من ينتقد العلماء فإنه يفعل ذلك لأنه يسعى إلى تمرير مخططات الأعداء، حتى أن الإمام الذهبي قال عن تصانيف العالم الجليل ابن حزم بأن القراء قد أعرضوا عنها ونفروا منها وهجروها عقابا له لأنه قد بسط قلمه ولسانه في نقد العلماء، وبالمثل فإن مقولة الصُّعلوكيّ: ( من قال لشيخه: لم - على سبيل الاستهزاء - لم يفلح أبدا )، كانت ضربا من ضروب المخاتلة الذي يهدف إلى الإرعاب.

إن القراءة لمدونة العلماء وإعادة النظر في لحومهم النصّية ليست عملا مذموما بل محمود، لأن إعادة القراءة والنقد هي باب من أبواب الاحترام والتقدير والاعتراف بأهمية العلماء. والإحياء لإرثهم عمل تنويري بامتياز. وهذ أمر لا ينبغي أن يقوم على التسليم واليقين، بل على المراجعة والفحص المستمر لأنها مليئة بالسموم التي ينبغي تجنبها، مثلما هي مليئة بالشحوم التي ينبغي الإفادة منها، وانطلاقا من ذلك فإن النقد نقدان والقراءة للحوم العلماء النصّية قراءتان: قراءة مسمومة إن كانت بلا تفكير ولا تدبير وقراءة غير مسمومة بل، تحمل الترياق معها، إن كانت نقدا ومراجعة.