الأحد 26 يوليو 2015 / 12:16

الأصنام الأربعة التي تعوّق العقل العربي




أكتب هذا المقال من بيروت، حيث أشارك في مؤتمر أقامته الرابطة المارونية على مدى يومين في جامعة "سيدة اللويزة" حول ظاهرة تهجير مسيحيي الشرق الأوسط عن ديارهم. شارك بالحضور مجموعة من النخب العالمية والعربية من وزراء وكتّاب ورجال دين مسيحيون ومسلمون وبرلمانيون وإعلاميون وغيرهم. وطُلب مني أن أتحدث عن دور الإعلام في بناء المنظومة الفكرية لدى المجتمع.

قررتُ أن أكتب مداخلتي عن دور الإعلام في تزييف الحقائق التاريخية، ومن ثم تزكية الاقتتال بين الناس حول أوهام وخرافات كرسها رجال كتبوا التاريخ على هواهم بعيدًا عن الواقع والحقيقية. هنا قفز إلى ذهني فصلٌ من كتاب "الأورجانون الجديد" الذي كتبه المفكر الإنجليزي "فرنسيس بيكون" في القرن السادس عشر، ليكون جزءًا من موسوعة المعارف التي ودّ بيكون وضع بذرتها ليستكملها بعده مفكرون وفلاسفة وعلماء في عصور تالية، وأعطى الموسوعة عنوان: "الإحياء الكبير".

ويُعدّ "الأورجانون الجديد" سخرية شاملة من فكر فلاسفة الإغريق مثل أفلاطون وأرسطو اللذين كان يراهما بيكون اثنين من العجائز العاطلين يخاطبون حشدًا من الشباب الجاهل، إذ رأى بيكون أن فلاسفة الإغريق، ورجال كهنوت من القرون الوسطى مثل توما الإكويني، وغيرهم، لم يقدموا للعالم أية فائدة عملية تساهم في تطور الإنسان ليعيش حياة أكثر رغدًا وعلمًا. ركزتُ في بناء بحثي على اثنين من الأصنام الأربعة التي رأى بيكون أنها تعوّق العقل الإنساني، بوجه عام، عن مشارفة الحقيقة وتساهم في تزييف التاريخ.

حينما فكّر فرنسيس بيكون، مؤسس الفكر العلمي ابن القرن السادس عشر، في المعوقات الأربعة التي تُباعد بين الإنسان وبين الحقيقة، كان كأنما يفكر في أزمة الإنسان العربي، لا الأوروبي، وكان كأنما يفكر في اللحظة الراهنة، وليس لحظة التعافي الأوروبي من سطوة الهيمنة الدينية مع مشارف عصر النهضة الأوروبي بعد القرون الوسطى العشرة المظلمة. قبل مولده بقليل كانت إنجلترا قد نزعت عن جسدها النصال الغائرة التي غرسها رجال الدين بعمق في متون المجتمع الأوروبي. وبدأت إنجلترا تصطبغ بصبغة العلم والمدنية، وراحت تزرع في المناصب السيادية العليا رجالا علمانيين تكنوقراط، بدلا من رجال الدين الذين تأبدوا في تلك المناصب دهورًا وقرونًا طوالا. فعمّ نظامٌ جديد يتضاءل فيه سلطان الكنيسة، وتتشاسع فيه السلطات المدنية والعلمانية. لاح نبوغ فرنسيس منذ طفولته الأولى، وأتم دراسته من جامعة كامبريدچ وهو في الخامسة عشرة من عمره. ومنذ بداية تشكّل وعيه المبكر، ثار بيكون على الغيبيات وعلى منطق أرسطو الميتافيزيقي ولاهوت القديس توما الإكويني اللذين رأى فيهما فلسفة لفظية عقيمة وغير عملية؛ لا تقدم أي عون للإنسان في رحلة كفاحه المرير في محاولة السيطرة على الطبيعة ومحاولة تحسين وضعه المعيشيّ والنهوض بحياته وتعمير الأرض. فراح يدعو إلى فلسفة جديدة مثمرة قائمة على العلم والعقل، وتعمل على مراجعة الإرث القديم وتنقيته من المتهافت والركيك والناتئ عن العقلانية. أهدى بيكون كتابه "النهوض بالعلم" لملك بريطانيا، عدا العديد من الكتب القيمة الأخرى مثل "حكمة الأقدمين"، وكتابه العمدة "الأورجانون الجديد"، وهو "أداة" المنطق العلمي في تفسير ظواهر الكون والطبيعة. وفيه ينقضُّ على فلاسفة الإغريق مثل أفلاطون، وبالأخص أرسطو، حيث ينتقد منهجه الميتافيزيقي الغيبي الذي وضعه في مجموعة كتب أسماها "الأورجانون"، وهي كلمة إغريقية تعني "الآلة"، أو "الأداة". وما حربه ضد أولئك الفلاسفة العظام، الذين رحلوا في القرن الرابع قبل الميلاد، إلا لأنه رأى أن فكرهم التغيبي الميتافيزيقي مازال مسيطرًا على اللحظة الراهنة. فما كانت حربه إذن ضد أموات، بل ضد أحياء ذوي سلطة ونفوذ على المجتمع الراهن، آنذاك. أما مشروع بيكون الأكبر، فكان الموسوعة المحترمة الضخمة التي أعطاها اسم "الإحياء الأعظم"، ومات دون أن يكملها، وقد أعلن بنفسه أنه عملٌ فكري علمي وإنسانيّ هائل لا يقوم به مفكر واحد، ولا جيلٌ واحد من زمن واحد، بل يستكمله بدأب وتريّث مفكرون عديدون في أزمنة مختلفة.

في كتاب "الأورجانون الجديد"، فنّد بيكون أصنامًا أربعة، أو أوهامًا أربعة، يجب على العقل الجمعي العالمي التخلص منها حتى يشارف تخوم الحقيقة. تلك الأصنام ترسّخت في العقلية الإنسانية على مر العصور، فزرعت في عقولنا جميعًا مجموعة من الأوهام والخرافات والتقاليد الفاسدة التي تباعد بيننا وبين جوهر العقل الصافي ومعدنه الأصيل الذي خلقه الُله فينا لنصل به إلى الحقيقة.

أول تلك الأصنام، صنمٌ جمعيٌّ عام يخص الجنس البشري بكامله، وأسماه "صنم القبيلة" Tribe Idol لأنه يخص "قبيلة الإنسان" بكاملها. وهو الهوى الشخصي ومجمل المعتقدات الزائفة المغروسة في الطبيعة الإنسانية، فتشكّل أحلامه وأمانيه وحدوسه التي تنزع نحو التعميم في الأحكام وعدم تحليل الأمور على نحو علمي منطقي، بل على العكس تجعل الإنسان يُسلّم دون وعي بمعتقدات قبيلته أو عرقه أو جماعته. فالعقل البشري لا يقبل إلا ما يوافق نزعاته وميوله، ولا يتلفت إلى التجارب التي لا تتفق مع رؤاه وترضي ميوله، لهذا نستسلم للخرافة والسحر والأحلام والتنجيم.

الصنم الثاني يخصُّ كل إنسان على حدة. وأسماه بيكون "صنم الكهف" Cave Idol. وهو استلهام من قصة الكهف التي نسجها أفلاطون ليدلل على أن الإنسان، كل إنسان، أسيرٌ في كهفه الخاص المعزول عن الرؤية الشاملة الخاضعة للمنطق والعلم. فكل إنسان هو عبدٌ تابعٌ لبيئته الخاصة ومستوى تعليمه وثقافته وظروفه الخاصة وتجاربه الشخصية وملكاته وعيوبه. كل ما سبق يحاصر عقلَ الإنسان ويفرض عليه لونًا من العزلة فيظل متقوقعًا في كهفه المحدود، ولا يرى من العالم ومن الحقيقة إلا ظلال أفكاره وتجاربه الشخصية الضيقة. أما قصة أفلاطون فتحكي عن مجموعة من البشر مقيدين بالسلاسل داخل كهف مظلم ليس به إلا فتحة صغيرة، ظهورهم إلى هذه الفتحة. فلا يشاهدون من الحياة الخارجية إلا ظلال البشر السائرين بالخارج المنعكسة على جدار الكهف المقابل لعيونهم. وفق منهج أفلاطون، فإن العالم الخارجي، خارج الكهف، هو عالم المُثُل وهو العالم الحقيقي غير المرئي لنا، وأما داخل الكهف، فهو الحياة التي نعرفها على الأرض وهي زائفة لا ترى من الحقيقة إلا ظلالها.

أما الصنم الثالث، فهو "صنم السوق" Market-place Idol، وهو الآراء والمعتقدات المغلوطة الناتجة عن تواصل البشر مع بعضهم البعض وتناقلهم الأحاديث دون علم. وينتج عن هذا الصنم تشويه المصطلحات والتعريفات وتعميم الأمور، بسبب تداول البسطاء والعامة والدهماء لآراء علمية دون فهم ولا دراية ولا دراسة. في المقاهي والأندية والأسواق التجارية وغيرها من مناطق تجمع الناس، يتداول الناس في شؤون الحياة والطبيعة والسياسة بلغة مشتركة بعيدة عن المنطق، فتفقد الألفاظُ دلالتها الحقيقية وتستقر في الأذهان مجموعةٌ من المغلطات المشوهة.
وفي الأخير، نصل إلى الصنم الرابع، وهو ما يعنيني في هذا البحث المقتضب، لأنني أرى فيه آفة عصرنا الراهن في المجتمع العربي.

"صنم المسرح"، Theatre Idol، وهو تزييف المصطلحات على يد الإعلام والنخبة. إنها الأفكار المغلوطة التي نتداولها عن المذاهب والمدارس الفكرية التي تشكّلها القيادات والمشاهير ذوو النفوذ والتأثير المجتمعي العميق على الأفراد في كل مجتمع. وهي الآراء التي تناقلناها عن أفواه السلف القديم دون تفكير. وبالرغم من أن بيكون كان يقصد "بالسلف" أرسطو وأضرابَه من فلاسفة الإغريق الذين ناصبهم العداء، إلا أن الأمر ينسحب اليوم على كل من نراهم علماء ومفكرين أجلاء في كل عصر ومكان. نحفظ أقوالهم ونسلّم بها ونتداولها ونرددها كالببغاوات دون أن نتدبر أقوالهم ونفنّد ما بها من مغالطات علمية أو آراء قد لا تصلح لزماننا الراهن. إنه التسليم المطلق بصحة تلك الآراء دون ذرة شك تخالجنا في جواز خطأها أو نقصها. ودلّل بيكون هنا بمثال عن العالم جاليليو الذي أثبت بالتجربة العملية أننا لو ألقينا من مكان عال بحجرين، أحدهما يزن رطلا والآخر يزن عشرة أرطال، فإن كليهما سيصلان الأرض في نفس اللحظة. ورغم أن تلك التجربة قد شهدها أساتذة في الفيزياء وعلماء رياضيات وشهدوا بصحّتها، إلا أن المشاهدين أنكروا التجربة وكذّبوا عيونهم لأن أرسطو قد قال (قبل قرون) إن الحجر الأثقل وزنًا سوف يصل إلى الأرض أولا! ذاك أن علوم الفيزياء المحدودة وقت أرسطو لم تدعمه بحقائق علمية مؤكدة لن يصل إليها العقل البشري إلا بعد قرون من موت أرسطو. تلك المغالطات الفكرية هي التي تشكل المنظومة الفكرية والدوجمائيات التي تم تلقينها للمجتمع لتُسيّر حياتنا الراهنة، وهي غير قابلة للنقد بزعم أن كل ما قاله الأقدمون خطٌّ أحمر لا يجوز الاقتراب منه. والتشبيه الذي أراده فرنسيس بيكون هنا يصوّر البشر بمجموعة من المتفرجين في عرض مسرحي يمثّله الأقدمون على خشبة المسرح في عرض هزلي زائف تم حبكه من منظومة من الأحكام المسبقة غير العلمية غير الدقيقة، وهي التي تقف حجرًا عثرًا في وجه الحقيقة، فتمنعنا من مشارفتها.

ما أكثر ما تنطبق أفكار فرنسيس بيكون بقوة على لحظتنا الراهنة بكل ما تحمل من فوضى وعبثية وافتقار للعلم في مجتمعاتنا العربية. وبالأخص صنما: "السوق" و"المسرح". أظن أن لا مهرب لنا من مأساتنا الفكرية العربية الراهنة إلا بتبنّي مقولة بيكون العاقلة: "لا تقرأ لتعارض وتُفنّد، ولا لتؤمن وتُسلّم، ولا لتجد ما تتحدث عنه، بل اقرأ لتزن وتفكر وتحلل".