الثلاثاء 28 يوليو 2015 / 15:31

تل أبيض "ج" "روج آفا"


 
بعد كلام رئيس حزب الاتحاد الديموقراطي (PYD)، صالح مسلم، في مقابلته مع صحيفة الحياة (25 يوليو 2015) عن خصوصية "المنطقة الكردية"، وخطاب رأس النظام السوري بشار الأسد (الأحد 26 يوليو)، عن تخلي "جيشه" عن بعض المناطق للمحافظة على مناطق أخرى، نستطيع الاطمئنان إلى أن الفوضى لم تبلغ حداً يجعل التقسيم أمراً منطقياً كمآل لأكثر من أربع سنوات من الثورة السورية، وأكثر من ثلاث سنوات من استباحة السلاح لحياة السوريين وأرضهم.

كلاهما كذب في الهامش الذي تتيحه السياسة حين تبتعد عن الواقع العملي، فمآسي الناس أكبر أخلاقياً من كل ما يمكن أن تفعله السياسة، وما يفعله السلاح. فوق هذا، تغيير الخرائط يخضع لحسابات دول تفوق إراداتها في الحجم والتأثير ما يمكن أن يدعيه كل من الأسد ومسلم.

مآسي الناس هنا تختص بالعرب والكرد معاً في منطقة الجزيرة. فكلا المكونين السوريين كان من فئة "الهنود الحمر"، أو العالم الثالث مقارنة بسوريا المتقدمة والمتميزة في شمال البلاد وغربها.

لا ينكر عاقل، أو متابع، أن حزب البعث حاول إجراء تغيير ديموغرافي في منطقة الجزيرة. بدأ في عام 1962، لكن ذلك لم يتم. كما لا ينكر عاقل كردي استحالة أن ينمو عدد السكان الكرد في منطقة القامشلي والحسكة بنسب تفوق بأضعاف نسب الزيادة البشرية الطبيعية حتى في الظروف المثالية في أواخر عشرينيات القرن العشرين، وثلاثينياته.

ننقل، هنا، عن محمد جمال باروت في كتابه "التكون التاريخي الحديث للجزيرة السورية" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات – بيروت 2013): "ارتفع عدد الأكراد في الجزيرة من 6000 نسمة عام 1927 إلى 47000 نسمة في ربيع 1932، وإلى 54340 نسمة عام 1939". هؤلاء هربوا من القمع التركي، ومن التهجير القسري، ومن عمليات إعادة التوطين، لكن قسماً منهم هاجر من تركيا إلى سوريا بحثاً عن العمل في حقول القطن المزدهرة آنذاك، واستقر في الجزيرة السورية.

بالطبع، سنجد أن سردية كردية تقول إن هذه "كردستان التاريخية" التي يحق للأكراد التنقل فيها رغم أنف سايكس – بيكو. كما نجد سردية أخرى حول توطين عرب الغمر (الذين غمرت بحيرة سد الفرات أراضيهم في الرقة)، وأن البعث استغل مشروع السد والبحيرة لاسترضاء المغمورين بمنحهم أراضي الأكراد في بعض قرى القامشلي. في هذه الجزئية لا يمكن الجزم، كون النظام يدعي أن هذه أراض مشاع مملوكة للدولة وضع الأكراد أيديهم عليها، ثم قامت الدولة باستردادها ومنحها للمغمورين.

في تل أبيض، لا يوجد مثل هذا الاشتباك للسرديات، كون التواجد الكردي فيها رمزي. وبغض النظر عن نسبة الكرد في القامشلي، التي يذكرها صالح مسلم في مقابلته مع جريدة الحياة (70%)، وهي غير صحيحة بدرجة شك كبيرة (تذكر بعض المصادر أن النسبة تصل إلى 26%)، فإن نسبتهم في تل أبيض يمكن مقاربتها بنسبة عدد القرى الكردية إلى مجموع القرى في منطقة تل أبيض (27 قرية إلى 630 قرية)، أي أن القرى الكردية تشكل نسبة 4.28% من المجموع الكلي للقرى. ولنفترض أن نسبة الأكراد مماثلة لهذه النسبة، أو أكثر، فإن عددهم نسبة إلى العدد الكلي لسكان المنطقة المقدر بـ 200 ألف نسمة ستكون 8560 نسمة، أو أكثر. و"أكثر" هنا تعني أنه يوجد قرى عربية كردية مشتركة، كما نستطيع الالتفات إلى أن القرى ليست متساوية في عدد السكان.

في تل أبيض، لا مفر للكرد من "أسرلة" الحلول، وبالقوة، كي تكون منطقة تل أبيض هي المنطقة "ج" في "روج آفا". هنا سيكون الكرد هم "إسرائيل"، وعرب الجزيرة هم الفلسطينيون.

لماذا تل أبيض؟ لأنها حلقة الوصل بين القامشلي ورأس العين من الشرق، وعين العرب – كوباني من الغرب. كما لابد لهم من السيطرة على جرابلس للوصل بين عين العرب – كوباني وعفرين في الغرب.

في الحالة الفلسطينية تعد القدس حالة في حد ذاتها، حالة تاريخية – دينية – ميتافيزيقية، وإن كانت الجغرافيا تضعها على تماس مع الأردن عبر البحر الميت شرقاً، ونهر الأردن شمالاً. التفصيل هنا جغرافي – سياحي – اقتصادي بالمقارنة مع المعنى الأول.

حتى في ظل الفوضى المتنامية، لا مجال لتحقيق الغرض الكردي سوى بالقوة، على غرار ما فعل اليهود، ومن ثم إسرائيلهم. ولا مجال لتحقيق ذلك سوى خلال فترة كافية يستمر فيها انشغال السوريين بإسقاط بشار الأسد في دمشق. كما يحتاج الأكراد أن يستمر انشغال تركيا أردوغان بسياساتها الداخلية المضطربة، وبخطر داعش الذي فاجأها رغم كل المقدمات التي كانت تشير إليه منذ سنوات.

مثل ذلك الكلام من مسلم والأسد يمكن تشبيهه بالحكاية الافتراضية لمبادلة الأراضي بين الفلسطينيين والإسرائيليين بعد شيوع مبدأ الأرض مقابل السلام، ومن ثم حل الدولتين، وما تفتق عن ذهن سياسيين هنا وهناك، من إسرائيليين وفلسطينيين، وغيرهم، عن مبادلة أراض فلسطينية بأراض أخرى تابعة لإسرائيل. يبدو الأمر منطقياً لحل مشكلة الاشتباك السكاني. لكن إسرائيل هي من خلقت هذا الواقع كي تحاصر القدس بفيض من السكان اليهود يجعل الأمر الواقع يقول بعد فترة ليست طويلة أن العرب الفلسطينيين أقلية يجب أن تخضع لحكم الدولة اليهودية.

وللتوضيح، تخضع 59% من أراضي الضفة الغربية رسمياً للسيطرة المدنية والأمنية الإسرائيلية، وهي المسماة المنطقة "ج" التي تضم القدس. بينما تخضع 23% منها للسيطرة المدنية الفلسطينية، ولكن إسرائيل تسيطر عليها أمنياً، وهي المنطقة "ب". يبقى 18% من أراضي الضفة الخاضع لسيطرة السلطة الوطنية الفلسطينية بالكامل، وهي المنطقة "أ".

مع ذلك، تتحكم إسرائيل بالحدود الخارجية للضفة الغربية، أي أن كل زائر عليه أن يمر بنقاط إسرائيلية للدخول إلى مناطق الحكم الذاتي.

في تل أبيض، يقول الواقع، ويؤيده كلام صالح مسلم، أن الجغرافيا تتغير الآن في تل أبيض قرية قرية، وأن ما نسميه الآن انتهاكات (تصحيح: حسب صالح مسلم) سيتحول بعد فترة من الزمن إلى أمر واقع سنطلق عليه تطهيراً عرقياً بأثر رجعي.

سيصحح فكر صالح مسلم أخطاء حدود سايكس – بيكو، وستعيد القوة العسكرية للـYPG حقوق الكرد في أرض ميعادهم التاريخية، في القامشلي، ورأس العين، وعين العرب، وربما في تل أبيض وجرابلس.

الآن، وإذا ما تحقق هذا للكرد، لا مفر أمام مشايعي صالح مسلم من شكر بشار الأسد، الذي اقتطع للأكراد جزءاً من مزرعته سوريا، ومن شكر "داعش" التي عومت حق الأكراد التاريخي في الحياة والمواطنة والمساواة.

عمر الزمن لا يقاس بسنوات عمر الثورة السورية. كما أن صبر الأكراد على حل قضاياهم السياسية والإنسانية لن يتوقف عند استغلال الفرصة التاريخية، إن كانت كذلك.

هنالك دائماً ما يقال عندما يصمت صوت الرصاص، وهنالك حقوق للجميع في سوريا الموحدة. صبر السوريون كلهم خمسين عاماً على الظلم، وثاروا فقط منذ أربع سنوات ونصف السنة.

هذه ليست دعوة كي يصبر الأكراد بقدر ما صبر الفلسطينيون، لكنها بالتأكيد دعوة لهم كي لا يقلدوا الإسرائيلي في الظلم، مع فارق التشبيه، حيث أن الغرب وأمريكا لن تلقي بالاً للكرد كما فعلوا مع إسرائيل.

وإلى أن تتضح الأمور، أصبح لدى عرب الجزيرة قضية أيضاً، مادام الكرد يروجون لفكرة أرض ميعاد خاصة بهم، على أمل أن تعلو أصوات ولا نصل إلى فكرة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض".