الثلاثاء 28 يوليو 2015 / 18:32

مفكر.. وعربي.. وكبير!




في بلادنا تصرف الألقاب بطريقة مخجلة، ويصدق أصحاب الألقاب المجانية من يمنحونهم التسميات الكبيرة فيصبح حامل الدبلوم المتوسط بدرجة مقبول "دكتور فلان"، كما يتحول زبون المقهى إلى محلل سياسي لأن الملل دفعه إلى قراءة الجريدة مرتين في حياته، أما الجنرالات المتقاعدون فإنهم يتحولون إلى محللين استراتيجيين يفتون في شأن التكتيكات الحربية والتكنولوجيا العسكرية المتقدمة ويقدمون للقارئ والمشاهد والمستمع العربي خلاصات تجاربهم العسكرية التي تبدأ وتنتهي غالباً دون خوضهم معركة واحدة.

المشكلة في الإعلام، وأذكر أنني ذات يوم بعيد قسوت على ابني وأنا اؤنبه على إهماله لدروسه، وأحذره من أن مستقبلاً أسود ينتظره إن أضاع وقته في مشاهدة التلفزيون ولم ينجح في الثانوية العامة، وأنهيت وصلة التأنيب بسؤاله: أي وظيفة ستكون متاحة لك من دون تأهيل علمي؟ رد "أيمن" ببساطة وتلقائية: محلل سياسي!

بصراحة، لم أستطع مجادلته، وتركته لمصيره.

لم يصبح "أيمن" محللاً سياسياً، وركز على ما كان يحب، فاتجه إلى الرياضة واحترف صحافتها.. ونجح، لكنني بعد قرابة عشرين عاماً من ذلك الحوار لم أنجح في إقناع من هم حولي بأنني مجرد صحفي، لست دكتوراً، ولا أنا محلل استراتيجي، ولا مؤرخ.. أو مفكر عربي كبير!

توترني التسميات التي يمنحها لي أحياناً زملاء في المهنة يسبغون علي ألقاباً غير مستحقة، أتعامل معها باعتبارها سخرية مقصودة، خاصة عندما يخاطبونني بلقب دكتور رغم أنني حصلت على مؤهلي الأكاديمي المتواضع بشق الأنفس، ويرتفع ضغطي عندما يعتبرونني محللاً سياسياً لأن هذا الوصف يجردني من مهنيتي كصحفي يرصد ويراقب ويتابع وينقل الوقائع كما هي تاركا تحليلها لذوي الاختصاص، أما من يقدمونني باعتباري مؤرخاً فإنهم يتطرفون في المبالغة لأنهم لا يعرفون أنني بالكاد أتذكر تاريخ ميلادي، ولا أستحضر من تاريخ العرب غير سنوات الرماد التي تتعاقب برتابة مريعة تخلو من الإنجاز.

كنت مستعداً للتعايش مع هذه المجاملات وقبولها من باب اللياقة الاجتماعية، لكنني جفلت من المهزلة، وقررت تجنب المشاركة في أي برنامج تلفزيوني أو إذاعي بعد أن اعتبرني أحد المذيعين "مفكراً عربياً كبيراً"، ولم يكن ممكناً الاعتراض، على الهواء، وتذكير الشاب بأن هذا اللقب غير موجود أصلاً في الحياة السياسية العربية لأنها تخلو من التفكير وتستلهم ما هو غير عربي وتختصر الصراعات في الصغائر.

صحيح أنني عربي بالمولد، لكن لقب المفكر يحتاج إلى ما هو أكثر بكثير من القدرة على القراءة والكتابة، كما أن الكبير لقب يطلق في بلادنا على الطاعن في السن أو الطاعن في الوجاهة العشائرية أو المختار أو العمدة، لكنه لا يمت إلى التفكير.

المفكر العربي الكبير له مواصفاته، وينبغي أن يتمتع بإمكانيات خاصة، كأن يبرر دياليكتيكياً وجود القوى الظلامية، وأن يسوغ فعلها الشيطاني باعتبارها "ثورة على النظم القمعية". كما يجب أن يكون "المفكر العربي الكبير" مدعوماً من دولة صغيرة، توفر له روافع خطيرة في منابر إعلامية مثيرة.. وذلك حتى يتسنى للمفكر الماركسي الأممي أو القومي العربي أن يدافع عن "حق الوجود السياسي" لجماعة تعتبر الماركسية كفراً، ولا تعترف بالعروبة كهوية سياسية وحضارية للإنسان في بلادنا.

أردت أن أقول للمذيع الشاب: على رسلك يا فتى.. أنا عربي، لكنني لست مفكراً ولا كبيراً، لكنه لم يمنحني الفرصة، فجاءت مداخلتي لتكشف أنني عربي يفكر "على قده"، ولا يمكن أن يكون كبيراً بوزن خمسة وستين كيلو وطول مئة وخمسة وستين سنتيمتراً!

نحتاج إلى إعادة النظر في الألقاب، وإلى بعض التواضع الذي يحترم وعي وذائقة القارئ أو المستمع أو المشاهد في زمن نرى فيه رماد السياسة، ويلفحنا الجمر المتقد في وعي الإنسان العربي.