الإثنين 3 أغسطس 2015 / 15:36

وزن الروح

كاد يصطدم المخرج إلخاندرو جونزاليس إيناريتو بسقف المحرمات الإنسانية، وهي محرمات لا يٌسْمَح بإعادة إنتاجها مرةً ثانية، ويكفي عبء المرة الأولى، والتي تُعزى لنقص شديد في النفس البشرية، عند تصويره لبعض لقطات مصارعة الكلاب في فيلم أموريس بيروس، وهي لقطات تضعنا بقوة، ووجهاً لوجه أمام أحكام القيمة الفنية. اللقطات في منتهى القوة. كلاب شوارع حقيقية، قبيحة وشرسة، وتُستخدم في الحياة الواقعية للمراهنات المادية، كما يستخدمها جونزاليس في فيلم أموريس بيروس، بل يستخدمها كموتيف إكزوتيك يضفي على الفيلم إرهاباً فنياً يهز به مشاعر هووليود الناعمة. مأزق الحكم الفني لا يدوم طويلاً كلما تقدمنا في زمن الفيلم، ورغم قوة جونزاليس في تصوير العنف والدم وحوادث السيارات المُختارة بعناية شديدة ولحظات أداء قوية لبراد بيت في فيلم بابل، عندما يرفع سماعة التليفون إلى الأعلى بطريقة مؤثرة حتى لا يسمع ابنه صوت البكاء، أو عندما تعرف ناعومي واتس أن شون بن يحمل قلب زوجها في فيلم 21 جرام، إلا أن جونزاليس يبقى ضعيفاً على مستوى الدراما، أو ما يبقى من الفيلم بعد المُشاهَدة ليس كثيراً. يعتمد المخرج في أفلامه الثلاثة أموريس بيروس و21 جرام وبابل على خطوط درامية تسير في الفيلم بتواز كبير، وتزداد حدة الانفصال بين خطوط الدراما، بعرض الخط الدرامي الواحد من منتصفه أو من نهايته، ونقاط اللقاء بين الخطوط الدرامية تحدث في الغالب بصدفة عبثية قدرية، لكنّ الصدفة تفقد معناها العبثي والقدري كلما تقدمنا في زمن الفيلم، أقصد أن الصدفة تفقد معناها الفلسفي لحساب مشاعر ميلودرامية، وينكشف قناعها بعد المُشَاهَدة الأولى فقط، بل أثناء المُشَاهَدة الأولى، وبعد زوال سحر مصارعة الكلاب، نربط بسهولة ما كان متقطعاً، فعلى سبيل المثال، خط شون بن في فيلم 21 جرام الذي يعاني من مرض في القلب، ويتم زرع قلب له، ورغبة شون بن لمعرفة صاحب القلب الحقبقي المتوفي في حادثة سيارة، وتطوير تلك الرغبة، ليصل شون إلى ناعومي واتس زوجة الرجل المتوفي، ثم اعترافه بأنه يحمل قلب زوجها، هنا نُدرك أن إلخاندرو جونزاليس إيناريتو مخرجاً متوسط القيمة، وهنا أيضاً يبدو كل تقطيعه الزمني، وعرضه للأحداث من الخلف للأمام، واعتماده الشديد على حيل المونتاج، لا يناسب بؤس الدراما وفقرها، وكأنّ جونزاليس حديث جدا على مستوى الشكل، ضعيف جدا على مستوى المضمون. بعد المُشاهَدة الأولى والأخيرة يكون السؤال، لماذا اختار جونزاليس اسم 21 جرام؟ المعنى العلمي جذاب وخادع لمبدعين من نوع جونزاليس، ففي حالة الوفاة يقل وزن الجسم فورياً 21 جرام، قد يكون وزن الروح، لكنّ جونزاليس ثقيل عليه هذا الوزن، والفيلم أبعد ما يكون عن المعاني الروحية الغامضة. ينجح جونزاليس في نقل الواقع الحرْفي فقط، كما نقل مُصارعة الكلاب، وكما نجح في خلق التفاصيل الطبية العلمية أثناء إجراء العملية الجراحية لشون بن، أو الأداة الحديدية ثقيلة الوقع على العين، والمخصوصة لكسور العظام المُضاعفة، ونحن نشهد لجونزاليس بقسوة الأداة في قدم الموديل، إحدى بطلات أموريس بيروس، ومع أن العلم صريح في عجزه عن تفسير الجرامات الناقصة من جسم الإنسان بعد الوفاة مباشرة، وهنا فقط يكون النقل الواقعي نقلاً فنياً بامتياز، وهي حالات نادرة لا يوفرها العلم كثيراً، إلا أن جونزاليس لا قِبَل له بالأحمال الثقيلة، واسم فيلم بابل الذي يضعنا مع إمكانات فلسفية يفتقدها الفيلم. أطلق أنجيلوبوليس اسم الأبدية ويوم عنوانا لفيلمه، وكان الفيلم يحمل معناه. وأطلق جيم جارموش اسم قهوة وسجائر عنوانا لفيلمه، وكان الفيلم يحمل أكثر مما يبديه العنوان البسيط. صوَّر إلخاندرو جونزاليس في أموريس بيروس و21 جرام وبابل حوادث سيارات ثلاثة، ومن الممكن اعتبار حادثة السيارة عند جونزاليس نقطة لقاء حادة بين خطوطه الدرامية، ولمّا كانت مادة حوادث السيارات في السينما الهوليودية كثيرة، ويغلب عليها الجانب التقليدي الخاص بالسرعة، فقد استطاع جونزاليس تصوير حوادثه بشكل غير تقليدي، ونذكر لحسابه الفني سماع صوت التصادم في فيلم 21 جرام بينما الصورة ثابتة على آلة تتطير أوراق الشجر الجافة، بعد أن تركها عامل التنظيف، وخرج من الكادر، فبقيت ماسورة ضخ الهواء تحفر الأرض، أو صوت الرصاصة الدقيق والحاد، في فيلم بابل، وهي تخترق الزجاج، لتصل إلى كيت بلانشت، وفي العادة يتم تصوير انهيار لوح الزجاج كله، إلا أن رصاصة جونزاليس اخترقت موضع مرورها فقط من الزجاج، مع تشريخات رقيقة حول مركز مرورها.