الجمعة 28 أغسطس 2015 / 09:45

من "المفتي الماجن" إلى شريعة القتل المجاني

"اجتمع مُحدِّث ونصرانيّ في سفينة، فصبّ النصرانيّ من زق خمر كان معه وشرب. وصبَّ وعرض على المُحدِّث، فتناولها من غير فِكْرٍ ولا مبالاةٍ، فقال النَّصرانيّ: جُعِلْت فِداك! هذا خَمْر، فقال: من أينَ علمتَ أنَّها خمر؟ قال: اشتراها غلامي من خَمَّار يهوديّ، وحَلَف أنّها خمْرٌ عتيق. فشربها بالعجلة، وقال نحن أصدق، نروي عن الصحابة والتابعين، أفنُصَدِّقُ نصرانيًّا، عن غلامه، عن يهوديّ خَمّار، والله ما شرِبتها إلّا لضعف الإسناد."( ثمرات الأوراق : ابن الحموي)

إنها حكاية دالة تلخص طبيعة " المفتي الماجن" المخادعة وتكشف ألاعيبه ومكائده وحيله المقززة، ففي الحكاية يبدو النصراني متصالحا مع نفسه، يسكب الخمرة المباحة في شريعته ويشرب منها، ويبدو أن ملامح وجه المحدّث كانت تدل أنه كان يتفرس في وعاء الخمرة و ينظر إلى النصراني بتشه. و لعل شهوة المحدث ورغبته فيما بين يدي النصراني قد شكلت حجابا يمنع البهجة عنه ويحول بين متعة الشرب.

سرعان ما عرض النصراني على المحدّث كأسا من الخمر من باب مشاركته اللذة وهي دعوة قد تحمل على باب المجاملة، لكنّه في الوقت نفسه حذر المحدّث بأدب جم بأن ما يعرضه عليه ليست إلا خمرة محرمة على المسلمين فيلجا المحدّث إلى الجرح والتعديل، وينزل الحكاية منزلة الحديث، حتى يتدرج شيئا فشيئا ثم يضعّف إسنادها، ويتخذ من ذلك ذريعة لتحليل شربها، منتقلا في النهاية من كونه محدّثا إلى مفت ماجن بفتوى ماجنة.

وهنا أشير إلى أنّ الحكاية تبين في بنيتها العميقة طبيعة الصلة بين النص والواقع، فهل يمكن لعاقل أن يعتمد على النص، والواقع يقدم لنا البرهان الملموس، وهل يحتاج النهار إلى دليل؟ كمايقول أبو الطيب. وقد أذكر أن الناس انقسموا قبل عصر النهضة في الغرب حول عدد أسنان الحصان، فوقف بعضهم مع أفلاطون وبعضهم مع أرسطو وكان يكفي أن يقوموا بفتح فم الحصان وعد أسنانه، وكان الله يحب المحسنين!

ولعل الحكاية تقدّم كذلك صورة من التعالي في العلاقات بين أصحاب الأديان التي يبدو المفتي الماجن فيها متفوقا عاقلا، في حين يظهر الآخر النصراني أحمق، فاقد الثقة بنفسه وبقدرته على الحجاج . وقد قاد المفتي تشهيه الخمرة إلى أن يحلل ما حرّم ويحرّم ما حلل، وعينه على الخمر العتيق، كما تصوّر لنا الحكاية بإيجاز غير مخل مفهوما شيّقا للمفتي الماجن، الذي يبيح لنفسه أن يدمّر العلاقات الاجتماعية الجامعة بين أتباع الأديان، ويحتكر العقلانية لنفسه ثم يهشّم منظومة الحلال والحرام ويدنّس علم الحديث بقياس ماجن للوصول الى مبتغاه، كما أن الحكاية لم يفتها أن تفضح الفقه المتشدد الذي يشوّه العقل من أجل أن يعلي من مكانة النقل وسلطته لكنه في هذه الحكاية يتخذ من العقل بل من الهوى سلطة أعلى من النقل.

تبدو الحكاية بليغة عندما نتأمل مفهوم "المفتي الماجن" الذي أشار إليه مفتي هيئة أوقاف دبي الشيخ أحمد الحداد على هامش مشاركته في مؤتمر دار الافتاء المصرية الذي عقد مؤخرا في القاهرة، داعيا إلى أهمية وجود تشريع يجرم الفتاوي الماجنة حتى تكون لكل دولة مرجعيتها القانونية في الفتوى، بل أكد ضرورة وجود مثل هذا التشريع، مشددا على أن الفتوى لا تخرج إلا من جهة مختصة تلافيا لفوضى الفتاوى الماجنة التي تتجرأ على دين الله وشريعته.

ولعل وجود قانون لتجريم الفتاوى أيّا كان مضمونها، ماجنة كانت أم غير ماجنة، يعد أمرا ضروريا وداعما للجهات المختصة في مزاولة عملها على نحو يحقق الأهداف، وهنا لابد من الإشارة إلى أن مثل هذا القانون سيسهم في الحد من التأثير الخرب للمتعالمين وسيجعل من المنظومة القانونية أكثر صرامة بل ومكملة على نحو حيوي لقانون الإرهاب وقانون مكافحة الكراهية اللذين صدرا مؤخرا في دولة الإمارات.

لقد أحيا مفتي هيئة أوقاف دبي، على الأقل في سياق دولة الإمارات، مصطلح "المفتي الماجن" التراثي الذي ظل مطمورا في كتب التراث، ولعله يصدر في ذلك عن معايشته للمأزق الذي يواجه الفتاوى في بلاد المسلمين التي تعد السلاح الأشد ضراوة في يد داعش الإرهابي في تهديده للأمن السلمي واستقرار المجتمعات الإسلامية.

لقد أدرك من قبل أبوحنيفة خطورة الفتاوى الماجنة عندما أدرك ببصيرة عملية وفقه واقعي بأن وظيفة المفتي لا تختلف بالضرورة عن أي وظيفة أخرى، ولذلك طالب بمنع ثلاثة والحجر عليهم، وهم المفتي الماجن التالف للأديان والطبيب الجاهل المزهق للأبدان والمكاري المفلس ( الذي يُؤجّر) ولايستطيع إيفاء الحقوق والمال، أي أن أبا حنيفة رحمه الله أدرك العلاقة القوية بين الدين والبدن من جهة وبينهما وبين رأس المال من جهة أخرى، ولذلك لم يتوان عن نزع القداسة عن المفتي صاحب الهوى بل ووصفه بالمجون وجعله على رأس من يحجر عليهم ذلك لأنه يتخذ من الحيل الباطلة طريقا لإيقاع الشر في المجتمعات متخذا من الفتوى وسيلة ليحرم الحلال ويحلل الحرام.

وإذا كان المفتي الماجن يصدر في الماضي عن جهل بدين الله وشريعته أو عن سذاجة، فإن تنظيم داعش الإرهابي والفقهاء المتشددين الماجنين يصدرون عن وعي وعلم بدين الله وشريعته، ولذلك فإن اجتراحهم للفتاوى يجعل أثرها متعاظما وهنا لابد من عدم إغفال حيل أخرى تتمثل في إعادة تصدير فتاوى الجحيم من جديد وإيقاظها من مضجعها أو انتقاء فتاوى بعينها من التراث ويعاد تشكيلها من جديد بعد أن ينزع عنها سياقها وظروفها التاريخية، حتى يوهم بأنها صالحة لكل زمان ومكان.

لابد أن أن نكون متيقنين بأن القدماء قد أدركوا خطورة المفتي الماجن واستغلاله للفتاوى من أجل التحايل على القانون وتشويهه لتضليل العدالة والتحايل عليها، وضربوا في ذلك أمثلة من مثل الفتاوى الماجنة بقصد تعليم الزوجة الردة لتبين عن زوجها أو تعليم الناس الحيل لإسقاط الزكاة عنهم، فالأولى مجون لضرب الأواصر الاجتماعية والثاني مجون لضرب رأس المال.

وجميعنا يدرك بأن المفتي الماجن يشكل خطرا فادحا على الصورة الكلية للإسلام ويزيد من فداحة التنميط للدين وتعزيز التمثيلات السلبية للمسلمين وتحفيزها على التشكل أكثر وأكثر في مخيال الآخر على نحو سالب، خاصا عندما تكون المحفزات الفتاوى التي تتكيء على الإسلام لتظهر بأن جوهر الدين وشريعته ماجنان، تماما مثلما اصطنعت الفتاوى الماجنة سعيا إلى تشويه موقف الإمارات من تخصيصها أرضا لبناء معبد هندوسي فشوهت المقاصد بوسيلة شريفة استعملت استعمالا غير شريف بواسطة مفتٍ ماجن.

وأوضح الشيخ أحمد الحداد خطورة المفتي الماجن ذلك الذي يعزز الزيف الذي أصاب الإسلام من خبث الجماعات المتطرفة، وانطلاقا من ذلك فإن وجود منظومة تشريعية لتنظيم الفتاوى تنظيما قانونيا يحميها من انحرافات المفتي الماجن، حتى تبقى صورة الإسلام كما نطمح دوما نقية، وهذا لا يأتي عن طريق الأمل والطموح ولا يتحقق بالحرص على تنقية الفتاوى من مجونها بل يأتي بالالتزام والتشريع القانوني، وبلادنا تستحق مثل هذه المبادرة حتى يبقى الإسلام رحمة ووسطية كما أراده الحق سبحانه.