الإثنين 31 أغسطس 2015 / 18:20

حراك بيروت: قليل من وطن

يكشف الحراك المدني في ساحة الشهداء عن الكثير مما يكبته اللبناني. أي كان. من هذه الجهة أو تلك. فهو، يريد أن يتنفس، لكنّه حذر، حذر كثيراً. الهواء بالنسبة له يأتي من طائفة أو من زعيم، أو حزب، وكله يعود إلى الدائرة الصغيرة. دائرة مذهب قلّة يستطيع أن يتخطاه كي ينتزع تلك المساحة التي انتزعها جزء كبير ممن كانوا في وسط بيروت ينادون ببلاد، بالإمكان أن يحيوا بها، بالحد الأدنى من القدرة على "التنفس".

لكن، أهم ما يكشفه هذا الحراك، بناسه، أو بغالبيتهم، بُعد الطبقة السياسية عن الواقع. فطرفا الانقاسم اللبناني، من 8 و14 آذار، لكثرة رهانهم على موقعهم في قلب طوائفهم، صاروا أبعد ما يكون عن همّ الناس، ولعلّ الحديث بالجمع فيه الكثير من الظلم، فإن كانت 14 آذار وعدت بعبور إلى دولة، وحاولت على قدر ما يستطيع عقلها المحدود، فإن 8 آذار لم تكن يوماً في هذا الموقع. هي إلى اليوم، وإلى من نزل منها يطالب بعيش، بالقليل منه، ترد عليه بالكرامة. تريد الحياة، حسناً، 8 آذار لا تعطيك خبزاً، ولكنها، بأدبيات من فيها، تقول لهذا الذي يبحث عن هوائه: أعطيك الكرامة، لماذا تريد الخبز؟

في ساحة الشهداء الكثير مما يمكن أن يتحدث عنه أي مراقب للوضع اللبناني منذ أن بدأ هذه الإنقسام إلى الآن. لكن، في أيام معدودة، انكشف ما هو أبعد من كل هذا. فالإثنان على حد سواء، لم يستطيعا أن يتحليا بالقليل من الذكاء، حتى لركوب "موجة تغيير". في آذار من العام 2011، ومع أوّل مظاهرة للسوريين للمطالبة بأبسط حقوقهم، ظهر كل بوق لنظام بشار الأسد ليتحدث عن سفارات وعملاء وما إلى هنالك من إبداعات لا يمكن للعقل أن يستوعبها. وهناك في بيروت، ومع أول حركة، كانت 14 آذار و8 آذار في خضم معركة الحديث عن سفارات تدير هؤلاء "العملاء"، حتى أن في السياديين من قال إن من تظاهر في وسط بيروت كانوا مجموعة من السودانيين وجنسيات مختلفة وصفوهم بالمندسين. وفرضاً انهم مندسون، لماذا بقيت السلطة ومن فيها، من دون أن تفعل شيئاً. فلنتخيل أن مندسين يطالبون بالحياة الكريمة، والدولة تشاهدهم من دون ان يكون لها القدرة على فعل شيء. حينها، يتحوّل المندسون إلى فعل صادق أكبر بكثير من فعل الدولة بالعقلية المتآمرة التي تحكمها، كما حال الكثير من الأنظمة في العالم العربي.

على أي حال، رد الفعل من الطرفين انطلق من المكان نفسه، رفض المطلب المعيشي، من دون أن يقدما أي بديل سوى الخطاب نفسه الذي يجترانه منذ سنوات. وإن كان لـ 8 آذار أعذارها كونها منغمسة، بشقها الأكبر، في حرب قتل السوريين تأييداً لبقاء السطوة الإيرانية في المنطقة، فإن السؤال يبقى لـ 14 آذار حول السبب الذي يجعلها تمانع أي نوع من التغيير، أو أي نوع من الإصلاح طالما هي غير قادرة على أن تحقق مطلبها الأساس وهو نزع السلاح. بل، هذا الفريق السيادي، الذي حمل شعار الدولة، وفشل، قرر أن يكون في المكان الذي تقف فيه 8 آذار. وبعض رموزه أو من ينتمي إليه، صار يتحدث بصيغة مشابهة لنظام البعث الحاكم في دمشق: تخوين، سفارات، ولم يحاول أن يعود إلى خطابه الأوّل، أو ما وعد الناس به. حتى، كالوا الاتهامات، ولم يقوموا بأي شيء ليقطعوا الطريق عليهم. لا النفايات، لا الكهرباء، لا الماء. لا شيء فعله هذا الفريق كي لا يصل "المندسون" إلى حد الكفر بالسلطة ومن فيها. ثم يقولوا "مشاغبين" وبعضهم يقول "زعران". مدرسة المؤامرة واحدة.

ساحة الشهداء، في حلّتها الجديدة، وعلى الرغم من تناقضات من افترشها، سرقت الهواء. أخذته عنوة من الذين يوزعونه بالتراضي أو بالانتماء. قالوا ما يريدون. مطالب بسيطة. الكبيرة منها تنتمي لحسابات قلّة، نفضوا عنهم غبار الأيام وقرروا ركوب موجة، كما فعلوا من قبل، أو حاولوا أن يفعلوا، ليصطدموا بولي نعمتهم، صاحب الزمان والمكان، فعادوا خائبين، إلى حضن الناهي، الذي يستخدمهم اليوم، لقمع حراك قد يكون.

يعود الانقسام اللبناني إلى ملعبه، واحد يسرح قتلاً في الخارج، ومن معه يسرحون فساداً. وآخر، يُمنن الناس أنه معهم، فيما هو شريك الفساد في الداخل، ومتغاضٍ عن أو متخطٍ لشعار الدولة، محاوراً من لا تهمه الدولة. حتى الحوار، يجتر نفسه منذ أشهر، وما النتيجة؟ فسادٌ بالمناصفة داخلياً، وقتل بحقوق حصرية خارجياً.

يبتعد طرفا النزاع عن هموم الناس. جميعهم، من هنا وهناك، يدركون تماماً قدرتهم على الحشد طائفياً. لا أحد يراهن على عقلانية أي منهم. جميلة هي الشعارات، من أسياد طبقة أطبقت على كل شيء. تقاسمت ما بقي من دولة، واختلفت على ما تبقى من نفايات. هم غير قادرين على أن يكونوا مع الناس أو همهم. والناس، ناس ساحة الشهداء، عليهم أن يدركوا أن لا أحد معهم. لهم فقط أن يطالبوا، وينتزعوا، دون أن يمسّوا القلاع. مسّ القلاع، مسٌّ للطائفة، وللطوائف خطوطها الحمر.

قلّة هم. قلّة غالبيتها صادقة، بغض النظر عن معتقداتها خارج أزمة مطلبية تضاف إلى أزمات، وخارج مستوعب النفايات الذي يمتد على مساحة الوطن. قلّة، فيها القليل من أمل. فيها ما تبقى لنا من وطن.